يشكل التزاوج بين "القوة " و "المصلحة القومية " نقطة تلاق بين الثقافة الشعبية وفلسفة العلاقات الدولية في منظورها الواقعي، فالقوة بأبعادها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والعلمية والاجتماعية..الخ، ليست أداة للعرض المسرحي أو التباهي الأجوف بل هي الأداة المستقرة في التاريخ البشري لتحقيق المصالح القومية، وعليه فإن مساحة المصلحة القومية تضيق وتتسع طبقا لما تسمح لها القوة بذلك، والسعي لتحقيق المصلحة القومية دون الاستناد للقوة كمن يطارد حوتا ليصطاده في عرض البحر وهو لا يعرف السباحة.
وكنموذج على ما سبق ذكره نجده في الدبلوماسية العربية الرسمية، فبعض الدول العربية تريد تحقيق السلام مع اسرائيل وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية ، دون أن تمتلك عنصر القوة الضاغطة لذلك أو اذا امتلكت بعض عناصر القوة أو كلها فإنها لا تضعها موضع التنفيذ في سياستها الخارجية، لأن الفعل السياسي العربي يستند لعقل سياسي اخترقته ثقافة " الفهلوة السياسية" التي اسهب كتاب عرب في شرح وتحليل خصائصها( حامد عمار، فؤاد زكريا، جمال حمدان، صادق جلال العظم..الخ)،
وهذه الشخصية تتميز "بالقدرة على التكيف الآني" اي الادعاء بالقدرة على مواجهة اي تغير بغض النظر عن "اخلاقية هذا التكيف" ثم الافراط في تقديم نفسها بكيفية آسرة لمتلقي هذا التقديم من خلال التظاهر بابداع آليات لم تخطر ببال الفرد العادي ، ثم التعالي على القدرة الجماعية والتركيز على القدرة الفردية للفهلوي ذاته.
ولما كان التشابك في العلاقات الدولية على درجة هائلة من التعقيد ، فإن الفهلوي يقدم هذا التشابك بتبسيط مفرط لغواية الجمهور بأنه قادر على الانجاز الكبير، وهو ما يعتقد انه يعزز مركزه.
ودعونا نقف عند ظاهرة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، لنرى أن جميع الاتفاقات العربية مع اسرائيل ، ورغم مسيرة تسوية علنية(وسبقها تطبيع دبلوماسي سري) فاق عمرها 46 سنة(من زيارة السادات للكنيست عام 1977 الى لقاء وزيرة خارجية ليبيا مع وزير الخارجية الاسرائيلي هذا العام)، لم تؤد الدبلوماسية العربية السرية والعلنية الى انسحاب اسرائيل من الاراضي الفلسطينية ولو مترا واحدا، ولا عادت القدس ولا عاد اللاجئون ولا قامت دولة فلسطينية بل ولا حتى حكم ذاتي بل لم ترق فلسطين المأمولة للعضو العادي في الأمم المتحدة . وهنا يتم طرح السؤال :لماذا هذا الفشل رغم ان الزعماء العرب كانوا مع اسرائيل أكثر كرما من حاتم الطائي؟ ورغم أن المشهد الدولي يشير يوميا إلى انماط ضغوط عسكرية او اقتصادية او سياسية متبادلة بين كل وحدات النظام الدولي كبيرها وصغيرها وبين العظماء من هذه الوحدات؟
لو كنت أنا رئيسا لوزراء اسرائيل فلماذا اعطي تنازلا طالما أن الطرف الآخر ينشد ودي ولم يعد يمارس علي اية ضغوط ، فهو يفتح اسواقه لي( حجم التبادل التجاري العربي الاسرائيلي بلغ عام 2022 طبقا للتقارير الرسمية الاسرائيلية ما مجموعه 3.473 مليار دولار)، ويشترى العرب سلاحا مني، فطبقا لمعهد sipri المعروف بتخصصه في هذا المجال وصلت نسبة ما اشتراه العرب العام الماضي الى 24% من اجمالي مبيعات السلاح الاسرائيلي البالغ اكثر من 12 مليار دولار)، ناهيك عن سلسلة متلاحقة من اللقاءات الدبلوماسية والسياحة والمناورات المشتركة وبدء تعاون أمني ...الخ.
لكن ثقافة الفهلوي لدى علماء الاجتماع السياسي تقول ان التطبيع يستهدف تحسين فرص التسوية مع اسرائيل، في الوقت الذي يميل فيه اغلب من اطلعت على دراساتهم من علماء العالم السياسيين شرقا وجنوبا وغربا وشمالا الى القول أن حل الدولتين لم يعد متاحا. وأن الاستيطان يتسع وان القدس عاصمة لإسرائيل..ومع أن كل استطلاعات الرأي العام العربي تشير لمعارضة شعبية وبنسبة كاسحة للتطبيع مع اسرائيل، لكن الفهلوي لا يرى في الرأي العام إلا قطيعا بينما هو وحده من " يعلم السر وأخفى ".
وتمتد ثقافة الفهلوة الى ابداع جديد وهو الإصرار اللفظي على " حقوق الفلسطينيين" دون ممارسة اي شكل من اشكال الضغط الفعلي الملموس، وفي نفس الوقت الذي يقال فيه لا تطبيع دون "حل الدولتين" نجد فتحا للأجواء للطيران المدني الاسرائيلي والسماح لوفود تجارية اسرائيلية بالدخول للأراضي العربية ، ولقاءات على "هامش مؤتمر هنا وهناك"، وهو ما سيوصل إلى فتح للتجارة ثم التعاون من خلال "مبادرة الحزام والطريق الصينية ومن خلال الممر الاقتصادي الهندي الذي اعلنت عنه الهند في الأيام الماضية ورحبت به الولايات المتحدة واسرائيل بقوة"، وليس شرطا ان نتقدم فعلا لا قولا نصف خطوة في اتجاه الدولة الفلسطينية المستقلة للتعاون في هذه المشروعات، بل سنصل الى التعاون العسكري والأمني..من خلال تهريب التطبيع قطعة قطعة على طريقة الحب عند أحمد شوقي "نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء"،
انها ثقافة الفهلوي التي أدركها تماما "رفائيل باتاي" في كتابه المشهور "The Arab Mind"، بأن العرب ينظرون لأقوالهم بانها فعل ناجز، ويرضون ذاتهم بالمبالغة في القول ليقنعوا أنفسهم بأنهم أنجزوا ما يتوازى مع مضمون القول، ويتضح ذلك في السياسة، فالقادة العرب مسجونون في " قفص القول لكنهم يتوهمون الطيران في الفضاء"..فهم يريدون اقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس بتخفيض الضغط على اسرائيل عبر منع المقاومة وتجارة الغاز معها ومشاركتها في الماء والتحول لاتفاقات المناطق التجارية وما خفي أعظم...تلك هي الشخصية الفهلوية التي " تضغط دون ضغط" وتحول الفشل إلى نجاح مدو يجري الترويج له بالاغاني والشعر والصور والخطابة والإطلال الدائم من على شاشات التلفاز وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي...وهنا ينام الفهلوي قرير العين...ثم يشرح لكم في الصباح ما رآه من أحلام سعيدة.