في مجتمعنا توجد حالة من الصراعات حول عدد من الأفكار، وأهم هذه الصراعات هو نقد مرحلة وحالة الصحوة، وهو أمر صحي، أن يتم تقديم نقد ومراجعة لأفكار تيارات الصحوة المتنوعة وسلوكها الجمعي. لأن الصحوة وتياراتها ليست مقدسة ولا معفية من النقد وهي جهد فكري بشري يعتريه الخطأ والصواب. وفي حالة تيارات الصحوة فإنها تمددت في المجتمع منذ نهاية السبعينيات إلى العقد الماضي. كانت الصحوة ومؤسساتها تحظى برعاية حكومية حتى أن فهد بن عبدالعزيز سماها الصحوة المباركة. وهي ليس بالضرورة أن تكون مباركة أو نجسة، لكن هذا هو السياسي يتلاعب بالأوراق التي تتماشى مع مشروعه السياسي.
هناك أحداث كبرى جعلت من الصحوة مركز للاحتشاد والأفكار وتغذية الصراعات "برعاية حكومية" مثل الحروب التي اندلعت في مناطق العالم الإسلامي ضد النظام السوفيتي، التجييش الطائفي بعد الثورة الإيرانية، حروب القاعدة المدعومة استخباراتيا في العراق وغيرها بعد سقوط صدام. هذه الأحداث الكبرى وغيرها من الاحداث التي كانت الصحوة فاعلا أساسيا فيها كتيارات متنوعة تسير في هذا الطريق المعبد والميسر من قبل الدولة ومؤسساتها.
اليوم وبعد ربما أكثر من ٣٠ سنة ربما يمكننا القول أننا نشهد عصر جديد لفلول الصحوة وليس بالضرورة نهايتها، فما تم زرعه خلال ثلاثة عقود يستحيل قطفه وحصاده في عقد واحد، فالمجتمع تشبع وتشكلت الكثير من أفكاره ببعض أفكار الصحوة "الحميدة" وبعض الأفكار "المميتة" لأنه يستحيل أن تكون كل تلك الأفكار شر محض أو خير محض. فالكثير من المفكرين والقيادات والرواد كانت الصحوة هي المحطة الأولى لهم ثم كونوا أنفسهم بعيداً عنها.
اليوم نحن في حقبة بائسة جديدة حيث أن القمع موجه لنقاد السلطة وهذا دأب الأنظمة القمعية في كل زمن، لكن الجديد اليوم هو فوبيا الصحوة، فكل من ينكر منكر أو يأمر بمعروف يصنف أنه صحوي أو صحونجي أو إخونجي، مثلا عندما تغني أمريكية على مسرح في الرياض بكلام بذيء ويتم يتم نقد هذا الانحطاط يقال للناقد أنت صحوي. وقس عليها من الممارسات الإقصائية التي يراد منها أن يصمت الإنسان للأبد ولا يتحدث إلا وفق أجندات معينة.
نحن أمام مشهد يتمكن فيه الاستبداد من تفريق المجتمع وتأليب بعضهم على بعض وتفرق كلمتهم ووحدتهم ووجهتهم والأخطر هو تعميق الكراهية بين أبناء الشعب الواحد، فالنظام الاستبدادي البائس يحاول أن يوهم المجتمع أنه لا أمل في العيش الرغيد والأمان إلا بتوحيد الأفكار وأن نكون متشابهين في اتجاهاتنا الفكرية والأخلاقية وأنه يستحيل أن يكون المجتمع متنوعاً في أفكاره ومشاربه ومتعايشا معها، فالاستبداد يريد أن يكون هو المنقذ من وهم هو من صنعه أن هذا التيار هو خطر عليك وأنا الذي أحميك منه!
هذه لعبة الأنظمة المستبدة، لقد حدثت وتحدث في كل زمان، حتى أمريكا في فترة الحرب الباردة حيث تشكل تيار من المرتزقة ممن يألبون الرأي العام والحكومة على مجموعة من الفنانين والمثقفين ممن يؤمنون بقيم المساواة والتوزيع العادل للثروة الذين ليسوا بالضرورة أن يكونوا شيوعيين أو يساريين، بل مواطنين يرون أن هناك فجوة بين الطبقات الثرية والطبقات الفقيرة وأن هناك إشكال في إحلال توازن للصالح العام. وقد اتسمت تلك الفترة باسم المكارثية نسبة إلى المتشكك جوزيف ريموند مكارثي الذي كان يتهم الكثير بأنهم اشتراكيين حتى ساهم في تشكيل تيار قذر أطاح بالعديد من الأبرياء ودمر حياتهم.
ونحن اليوم نمر بنفس المنعطف، فقبل عقود كانت النظام السعودي يتهم المثقفين بالليبرالية والعلمانية، وقبلها باليسارية والبعثية، وهي سنّة عند الأنظمة المستبدة أنها تلعب على هذا النوع من الأوتار، التي يغذيها بعض الفاعلين بقصد وبغير قصد. وهناك حمقى لا يفقهون شيء لكنهم كانوا كحطب جهنم يحترقون ويكونون مواد خام لهذه الصراعات التي تصب في صالح السلطة القمعية وليس الصالح العام.