عاد الحديث عن الربيع العربي بقوة بعد لحظة السابع من أكتوبر الفارقة وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالنقاش حول مشروع الربيع، وكالعادة كان النقاش، يدور بين فريقين بشكل أساسي، فريق يتبنى مشروع الحقوق والحريات والمواطنة الحقيقية ويرى في الربيع العربي أعظم لحظة في التاريخ العربي، وفريق يناصر الاستبداد والقمع ويرى الربيع مؤامرة مدبرة بهدف تفكيك الأنظمة العربية القوية التي كانت تقف بقوة ضد المشروع الصهيوني (!) وهم أنفسهم، الذين - على الأقل- يقفون اليوم على الحياد وهم يشاهدون حرب إبادة غزة ومنهم من انحاز للاحتلال بشكل كامل، في تناقض واضح وجلي بين ما يزعمونه من أسباب معاداتهم للربيع وبين مواقفهم الحالية المخزية، وهذا يؤكد أن حقيقة موقفهم من الربيع العربي ليس كما يزعمون، بل على العكس فشيطنة الربيع وجعله فزاعة يجن جنونهم عند ذكرها، سببه الأول هو الأثر العظيم للربيع في النفس العربية، حين جعل التغيير خيار ممكن ومعقول بعد عقود من سيطرة الانهزامية والاحباط واليأس، فقد كانت لحظة انطلاق الربيع العربي هي أول إعلان عربي عن سيادة الشعوب وكانت الميادين والشوارع موطن التعبير عن هذه الإرادة والسيادة والعنوان الأكبر "الشعب يريد" نعم، فهذه الشعوب كبقية الأمم لديها أحلام وآمال تناضل من أجلها، ولديها معاناة وآلام تنتفض ضدها، وبالطبع فلا يمكن لهذه الأنظمة البائسة وأنصارها أن يشاهدوا انهيار منظومة فسادهم وقمعهم دون أن يتحركوا ويحاربوا هذا الأمل الوليد، وقد رأينا الثورة المضادة ونتائجها، ومنها ما نراه اليوم من عجز وتخاذل عربي غير مسبوق وامتناع عن أي جهد حقيقي لوقف حرب الإبادة الجماعية ومخططات التهجير، وبدلاً من الضغط على هذه الأنظمة لتقوم بواجبها، أصبح الهجوم على الربيع العربي وتحميله مسؤولية تخاذل وانحطاط هذه الأنظمة الموقف الأسهل، فمهاجمة الضحية لا تتطلب الشجاعة ولا التضحية وهي خيار العاجزين والمنتفعين وأولئك الذين ألفوا العيش بعبودية تحت الذل والقهر ولا يرون بديلاً لما يعيشون تحته.
ولكن، عودة لسؤال اللحظة الأهم، وللرد على هؤلاء وغيرهم، ممن يقضون ليلهم ونهارهم في شيطنة وتشويه أجمل حدث عاشه هذا الجيل.. ماذا لو انتصر الربيع العربي؟
في مصر، ماذا لو انتصرت ثورة 25 يناير وكان هناك رئيس وحكومة وبرلمان منتخب يعبرون عن الإرادة الحرة والحقيقية للشعب المصري؟ ماذا لو كانت الساحات والميادين مفتوحة للمصريين ليعبروا ككل الشعوب فيها عن إرادتهم ومواقفهم؟ هل كانوا سيغلقون المعبر ويقفون متفرجين على كارثة تجري على بعد مسافات بسيطة منهم؟ هل كان رئيسهم سيخرج ليجعل الخط الأحمر هو تهجير أهل غزة لمصر وما دونه وكأنه لا يعني مصر ولا شأن لها به؟ وهل كانت الحكومة المصرية لتجرؤ على مفاوضات خلف الأبواب المغلقة لصفقات مشبوهة تتضمن التهجير وتصفية القضية الفلسطينية مقابل تخفيف قيود اقتصادية؟ هل كان النظام المصري ليتخذ أسوأ مواقف العجز والتخاذل حتى عن تعليق أو قطع العلاقات مع الاحتلال؟ أو حتى مجرد التهديد الجاد فيما لو لم تتوقف المجازر؟ هل وهل سيحصل كثير مما نراه اليوم في الموقف المصري؟ هل عرفتم ماذا سيحدث لو انتصر مشروع الربيع العربي في مصر؟
وفي السعودية، ماذا لو انتصرت الحركة الإصلاحية وتحققت مطالب عرائض وبيانات الشباب والنخب الداعية للإصلاح السياسي والحقوقي مثل بيان "نحو دولة الحقوق والمؤسسات" الذي وقع عليه الآلاف، وبيان "إعلان وطني للإصلاح" وفيها دعوات لحماية الحريات المدنية والسياسية ومطالب بالحق الأساسي في المشاركة السياسية ودعوة لحوار وطني وإصلاح دستوري يصل بالبلاد لنظام نيابي دستوري، وماذا لو تحقق مشروع جمعية حسم - الذي كاد أن يصنع التاريخ لولا بعض الظروف الداخلية والخارجية- والذي كان يدعو لدستور ديمقراطي وحكومة منتخبة بأغلبية برلمانية.. إصلاح حقيقي كان سيغير ليس فقط السعودية، المنطقة بأكملها، فلو تحققت كل هذه المشاريع وغيرها من المبادرات والنضالات الإصلاحية، هل كان مشروع التطبيع سيُطرح كخيار من الأساس؟ هل كان القمع سيمنع الناس من مجرد الدعاء أو التضامن العلني مع غزة؟ هل كانت السلطة لتملك سلطة تجريم الدعم والتعاطف الذي شهده العالم كله حتى ببعض أشد الدول قمعية إلا السعودية؟ وهل كان الموقف الرسمي السعودي سيكون بهذا الهزل؟ هل وهل.. تساؤلات كثيرة مرتبطة بغزة وفلسطين وما الذي سيتغير سعودياً لو كان هناك أي شكل من أشكال الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان.. فهل عرفتم الآن ماذا لو انتصر مشروع الربيع العربي في السعودية؟
وفي المغرب، ماذا لو انتصرت حركة 20 فبراير، وكانت هناك حكومة ديمقراطية معبرة عن أغلبية برلمان شعبي منتخب يعبر بدوره عن المجتمع المغربي تعبيرا حقيقيا ويكون هو السيّد فلا سلطة تعلو عليه؟ ماذا لو توقفت الاعتقالات السياسية؟ ماذا لو كان هناك دستور لا يعطي سلطة لأحد فوق سلطة الشعب؟ هل كانت المغرب لتطبع مع الاحتلال من الأساس؟ ثم هل كانت لتتمسك بالتطبيع وترفض مجرد تعليق العلاقات أو التهديد بقطعها لو لم تقف الإبادة؟ فملكها كما يفتخر بنفسه رئيس لجنة القدس وأمير المؤمنين وشعبها بكل قواه مناهض للتطبيع.. اذا لو كانت السلطة معبرة عن شعبها وخاضعة لسلطته هل كان موقفها مما يجري في غزة سيكون كما هو الآن؟ هل عرفتم الآن ماذا لو انتصر مشروع الربيع العربي في المغرب؟
وفي البحرين، ماذا لو انتصرت حركة 14 فبراير، واستجابت السلطة للمطالب الإصلاحية التي عبرت عنها وقدمتها الجمعيات السياسية البحرينية في مشروع "وثيقة المنامة" ؟ ماذا لو كان هناك إصلاح دستوري يؤسس لنظام برلماني ديمقراطي ورئيس وزراء منتخب وحرية تعبير وبرلمان حقيقي يعبر عن كل مكونات الشعب البحريني؟ هل كان مشروع التطبيع ليمر؟ ثم هل كانت العلاقات لتستمر؟ وهل كان ولي العهد البحريني ليخرج بخطاب هزيل مثل الذي ألقاه واحتفى به الإعلام الاسرائيلي؟ هل عرفتم الآن ماذا لو انتصر مشروع الربيع العربي في البحرين؟
وفي الإمارات، ماذا لو تحققت مطالب عريضة الإصلاح التي أطلقها نخبة من النشطاء والمثقفين والرموز الشعبية الإماراتية والتي طالبت بانتخاب جميع أعضاء المجلس الوطني (البرلمان) ومنحه الصلاحيات التشريعية والرقابية الكاملة، هل كان البرلمان المنتخب سيمرر مشروع التطبيع من الأساس؟ وهل كان ضمان حرية التعبير سيسمح بما نراه الآن من قمع لكل الأصوات الإماراتية المختلفة مع خط السلطة؟ هل كنا سنرى أمثال أحمد منصور في السجن؟ هل كنا سنرى مهجرين إماراتيين؟ هل كانت الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع ستتكون خارج الإمارات؟ وهل كان الشعب الذي يملك إرادته وحريته سيسمح لممثلة حكومته في مجلس الأمن أن تخرج للعالم بخطاب مخزي وتجاهل لإبادة غزة؟ هل وهل.. فهل عرفتم الآن ماذا لو انتصر مشروع الربيع العربي في الإمارات؟
وفي الأردن، ماذا لو انتصر الحراك الشعبي؟ ومطالب مختلف مكونات الشعب الأردني بالتحول إلى نظام برلماني كامل تكون فيه الحكومة منتخبة بأغلبية برلمانية، ماذا لو استجاب ملك الأردن بجدية لتلك المطالب ودون وعود وتسويف؟ ماذا لو كانت هناك حكومة أردنية منتخبة، وضمان للحقوق والحريات، هل كانت التطبيع سيستمر؟ هل كانت احتجاجات التضامن مع غزة ستواجه بنوع من القمع والتضييق؟ هل كان الموقف الأردني سيكون رغم أن الأردن معني بالدرجة الأولى بما يجري في غزة بهذا السقف المنخفض جدا؟ هل عرفتم الآن ماذا لو انتصر مشروع الربيع العربي في الأردن؟
وهكذا في كل هذه الأمثلة والتساؤلات، الإجابة قطعاً لا، ولذلك ينبغي للناس معرفة أهمية وضرورة الديمقراطية في بلدانهم بدلاً من رواج خطاب معادي لخطاب الحقوق والديمقراطية وكأنها مفاهيم غربية ينبغي مقاطعتها كيداً في الموقف الغربي من غزة، وكأن العالم أصلا يسعى لإقناع العرب بحقوقهم.. حان الوقت ليدرك الجميع بأن غياب هذه الحقوق، وغياب الديمقراطية.. أوصل العالم العربي إلى هذا القاع.. في كل شيء!
بالطبع، الحديث هنا ليس عن العنتريات والمبالغات التي يطالب بها البعض وتفتقر إلى النضج والواقعية، إنما عن خطوات واجراءات دبلوماسية وسياسية واقتصادية كثيرة كان يمكن للنظام العربي بسهولة أن يتخذها منذ اليوم الأول لوقف هذه الإبادة و ما هو مخطط حال نجاحها لكنهم قرروا التخاذل واتخاذ مواقف عاجزة ومخزية بشكل غير مسبوق حتى أصبح بلد مثل كولومبيا وهي أبعد بكثير عن غزة من العرب أكثر تضامنا وانحيازا ودعما لغزة من معظم الدول العربية، ولا يمكن فهم مستوى التخاذل العربي هذا إلا بأنه إما جهلاً بما تملكه بلدانهم مجتمعة من آليات وأدوات تأثير كما ذكر الدكتور عزمي بشارة أو نوع من الشراكة والتآمر للتخلص من القضية الفلسطينية والامتناع عن أي ضغط أو محاولة للتأثير لوقف مثل هذا المخطط.. ظنا بأن خضوع غزة سيخضع الجميع للأبد..
فهل عرفتم الآن.. لماذا حاربوا الربيع ولا يزالون؟