تخيل مكانًا يتلاشى فيه الخط الفاصل بين الحرية والأسر، حيث يتحول السعي وراء اللجوء إلى كابوس كافكاوي. في 30 نوفمبر/تشرين الثاني، عقدت Orion Grid (وهي منظمة بلغارية غير حكومية) ندوة مهمة ناقشنا فيها محنة اللاجئين وطالبي اللجوء المحتجزين في بلغاريا. وقد تم التركيز على مركز احتجاز Busmantsi بالقرب من صوفيا - وهو مركز يخفي وراء واجهته المنظمة تيارًا عميقًا من الفوضى. هذه الندوة جرت أعقاب مظاهرة عامة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني حظيت بتغطية اعلامية استثنائية، سلطنا فيها الضوء على الحاجة الملحة للمزيد من الانخراط المجتمعي.
وفي حين أن وجهات النظر القانونية والإنسانية غالبًا ما تهيمن على المناقشات حول قضايا الهجرة واللجوء، إلا أن هناك سؤالًا فلسفيًا أعمق: كيف يمكننا التوفيق بين حرية الروح الإنسانية وحدود السيطرة المؤسسية؟ يتعمق هذا المقال في هذا التقاطع، ملخصًا فصولًا من اختيارات قادمة، ولإيماني بأهمية الفلسفة حيث يجب أن تسبق التشريع القانوني، ينصبّ تركيزي على الأبعاد الفلسفية والاجتماعية للوجود بالنسبة للأفراد الأبرياء غير المدانين - لا سيما تجاربهم المروعة مع محاولات الانتحار وأعمال العنف والاتجار بالمخدرات وتعاطيها نتيجة وجود فراغ فلسفي في رؤية التشريع القانوني تمنع البيروقراطية الحكومية إصلاحه.
بانوبتيكون العصر الحديث
طوال سنوات اعتقالي الثلاث، لم أكتفِ بمشاهدة الظروف التي يتراجع فيها الأمل وينتشر اليأس حيث تبدو هذه التأثيرات بديهية من النظرة الأولى، لكن وبشكل أعمق عايشت بشكل مكثف التدهور المنهجي لصحة المحتجزين النفسية والجسدية وشهدت عن كثب الواقع القاسي للحياة داخل الجدران. منذ أن بدأ احتجازي في أكتوبر 2021، رأيتُ كيف تتم عمليات التجريد المنهجي لهوية السجناء وأملهم. وقد سبق تصوير هذا النموذج بشكل واضح ودقيق من خلال تحليل إرفنغ غوفمان لـ"المؤسسات الكلية - Total institutions"، والذي أراه حجر الزاوية لفهم Busmantsi. فالحياة هنا مسيّرة إلى حد أن كل جانب من جوانب الوجود بالنسبة للمعتقلين تمليه سلطة متجانسة تفرض وجودها: - كيانٌ عصريّ أشبه بـ"بانوبتيكون- Panopticon،" هذا الكيان الكلي يسلب المحتجزين هويتهم الشخصية حيث يعيش السجناء ما تعيشه الشخصيات الكافكاوية في عالم لا أهمية لبراءتهم فيه.
كل هذا بمثابة شهادة صارخة على ما يمكن أن يحدث للفرد تحت الرقابة والسيطرة المطلقة للدولة والتي تظهر على شكل أبواب حديدية ومراقبة أمنية مستمرة عبر الكاميرات وأجهزة التنصت الإلكترونية والهيمنة الجسدية لرجال الشرطة، مما يؤدي لانعدام تام للخصوصية. هذا المركز أكثر من مجرد نسخة مظلمة من البانوبتيكون، وهذا العالم المصغر من الهيمنة الأمنية المطلقة تجعلني أعايش واقعيا أصداء تحذيرات جورج أورويل في رواية 1984، حيث: "الأخ الأكبر يراقبك" - ليس للحماية، بل للسيطرة.
يذكرني هذا الكابوس المستمر برواية "المحاكمة - The Trail" لفرانز كافكا، حيث يضيع الأفراد في متاهات البيروقراطية. لقد كان السطر الافتتاحي للكتاب هو "لا بد أن شخصًا ما كان يفتري على جوزيف ك.، كان يعلم أنه لم يرتكب أي خطأ، ولكن في صباح أحد الأيام، تم اعتقاله". و في مركز احتجاز Busmantsi يجد المعتقلون حياتهم عالقة في هذا الكابوس الكافكاوي ويواجهون تهمًا من قبل مختلف الأجهزة الأمنية (وعلى رأسها جهاز الأمن القومي SANS)، دون أن يفهموا التهم أو منطق النظام. وهذا يعيد للأذهان مقولة المحقق السوفييتي الشهير لافرينتي بيريا والتي تقشعر لها الأبدان: "أرني الرجل وسأريك الجريمة"، حيث البراءة القانونية وفقًا للأجهزة الأمنية مجرد إزعاج يجب التحايل عليه. وقد تفاخر بيريا، رئيس الشرطة السرية الأطول خدمة والأكثر قسوة في عهد جوزيف ستالين في الاتحاد السوفيتي، بأنه يستطيع إثبات السلوك الإجرامي على أي شخص.
وتطبق هذه المبادئ، بما في ذلك اعتبار المحتجز مذنبًا بشكل افتراضي، بشكل مماثل في بلغاريا، حيث يتم اتهام طالبي اللجوء بـ"تهديد الأمن القومي" دون دليل أو تهم جنائية، مما يعكس انتهاكًا للافتراض القانوني الأساسي المتمثل في افتراض البراءة حتى يتم إثبات الذنب بشكل كفء. تتماشى هذه الممارسة مع مقولات تاريخية لشخصيات نظّرت لما أسميه "الجنايات الافتراضية" مثل قول اللورد براكسفيلد: "دعهم يأتونني بالسجناء، وسأجد لهم قانونًا"، أو المثل الروسي القائل: "إذا كان هناك عنق فهناك طوق"، أو ادعاء الكاردينال ريشيليو بأنه يستطيع شنق أي شخص بناءً على ستة أسطر من النص الذي كتبه. وفي داخل هذه الدائرة نعيش الرعب الوجودي الذي كتب عنه ألبير كامو، حيث "الحرية المطلقة تسخر من العدالة. والعدالة المطلقة تنكر الحرية".