بعد أن تحدثنا فيما سبق من “متكأ”، عن ضرورة المعارضة أو دواعيها، سأتحدث اليوم عن معنى المعارضة، وإذا كنا نعلم أن المعارضة بشكل عام تعني قول “لا” لقرار معين أو فعل معين، إلا أنها في الجانب السياسي تعني أن تترجم الـ “لا” لعمل سياسي له طرقه وأهدافه ومشاريعه، حيث تختلف أشكال المعارضات باختلاف مشاريع أصحابها، وبيئة العمل والظروف المحيطة.
وإذا اتفقنا على ضرورة وجود معارضة، وأهمية ذلك بل ولزومه، حيث لا يوجد أحد في الأرض لا يعترض الناس على كل أفعاله أو بعضها، فإننا بحاجة إلى معرفة الفرق بين المعارضات لمعرفة طرق التعامل معها وأسلمها وآمنها وأكثرها نفعًا وأخفها ضررًا.
فهنالك معارضة عنيفة تنتهج القوة سبيلًا للتغيير، وقد تحمل السلاح، أو تستعين بمن يملك السلاح، وقد تستعين بمن يملك السلاح من جماعات مقاتلة داخلية، أو تستعين بجماعات تحمل السلاح من الخارج، كما يمكن أن تستعين بمن يحمل السلاح بشكل نظامي داخليًّا كالجيش أو قوات حكومية أخرى، أو بمن يحمل السلاح بشكل نظامي في الخارج كجيوش دول أخرى. وفي المقابل هنالك معارضة سلمية، لا تنتهج أسلوب العنف ولا القوّة المادية في معارضتها، منها الدستورية التي تعمل وفق أطر دستور البلاد، ومنها غير الدستورية، التي لا يسعها ولا يحميها ولا يستوعبها دستور البلاد، ومنها البرلمانية التي تتخذ من مقاعد البرلمان منصة لها تساءل الحكومة وتحاسبها عبرها، مستقوية بأصوات شعبية اختارتها، ومنها غير البرلمانية لم تستطع الوصول إلى كراسي البرلمان إما لعدم توفر رصيد شعبي كافية لها، أو لأسباب متعلقة بالفساد والتزوير ونحوه، أو لعدم وجود البرلمان ولا صوت للشعب من الأساس كما أن من المعارضة من يتخذ بلاده محطًا لانطلاق أعماله، ومنها من يتخذ الخارج لعمله السياسي المعارض.
ولا شك أن المعارضة السلمية أفضل من العنيفة، والمعارضة الداخلية أفضل من الخارجية، والمعارضة البرلمانية أفضل من غير البرلمانية، والمعارضة الدستورية أفضل من غير الدستورية، ولكن الخيارات الثلاثة الأخيرة – غالبًا – ليست بيد المعارضة، بل بيد السلطات، إذا سلمنا أن العنف دائمًا هو اختيار وليس اضطرار.
فالسلطات التي تمنع المعارضة من الوصول إلى البرلمان عبر التزوير أو التضليل، تحرمها من اللجوء لصوت الشعب، وتضطرها لكي تعمل من خارج البرلمان، وفي بلدنا -للأسف- لا يوجد برلمان من الأصل، ولا صوت للشعب.
والسلطات التي تُفصّلُ الدستور على مقاسها لكي لا يسمح بوجود معارضة دستورية، يجعل المعارضة مضطرة للعمل خارج إطار الدستور، وفي بلدنا -للأسف- لا يوجد دستور من الأساس.
والسلطات التي تطارد المعارضين وتقمعهم وتضيق عليهم في بلدهم وتحرمهم من حرية التعبير وأن يعترضوا على السلطات دون خوف أن يمسهم سوء كالقتل أو التعذيب أو السجن أو الحرمان من الحقوق كالعمل والعلاج والتعليم وغيره، تضطر المعارضة للعمل من الخارج، وفي بلدنا -للأسف- لا يوجد أي مجال للسماح بممارسة حرية التعبير، ولا أدنى قبول لأي رأي معارض. إذًا، فالخيارات الثلاثة السابقة هي بيد السلطات وليست بيد المعارضة، وفي بلدنا لا خيار لنا فيما سبق.
وإذا كان -كما قيل في المقال السابق- أن لكل صاحب سلطة قرارات تستدعي وتستوجب المعارضة، وأن هناك ضرورة للتقويم بالمعارضة، وأن التسليم المطلق مضر ومدمر، فإننا لابد أن نفكر في ترشيد هذه المعارضة التي لابد ولا مناص منها، فالنظام الديموقراطي رشدها بأن يجعلها من البرلمان، عبر ممثلي الشعب أو بعضه، بصوته وبمطالبه أو بعضها، تنافس المعارضة الحكومة فيما يخدم الشعب أو فيما تظن أنه سيجلب صوت الشعب، ويكون ذلك عبر آليات لازمة، أهمها الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية لدى البرلمان الذي يقر التشريعات ويراقب أداء الحكومة، والسلطة التنفيذية التي تقوم بواجباتها التنفيذية خدمة للشعب، والسلطة القضائية التي تفصل بين المختلفين أفرادًا ومؤسسات فصلًا لازم التطبيق، دون أن يكون للحكومة أي تدخل في التشريعات أو القوانين أو في التقاضي، ولا لأي سلطة تدخل في السلطات الأخرى، ويزداد الأمر سلامة وانضباطًا كلما كانت حقوق الإنسان مطبقة ومحترمة، فإذا كانت حرية التعبير مكفولة، بجانب الحقوق الأخرى، استطاع الشعب أن يقول رأيه بحرية، وأن ينتخب من يريد بحرية، وأن يحارب الفساد، وأن يقاضي أي مسؤول، ولا يوجد مسؤول بيده أن يمارس القمع أو يفلت من العقاب، فتتوزع القوة ليكون مردها الناس وما يريدون، أو غالبيتهم.
وهذا يخلق مؤسسات تخرج عن نطاق المعارضة، فتجد المعارضة مقتصرة على الحكومة فقط، وليس على مؤسسات الدولة التي تبنى لتكون للدولة لا للحكومة، فضلًا عن أن تكون لأفراد، وأهمها مؤسسة القضاء، لتزداد القاعدة المشتركة بين الكل، حكومة ومعارضة، وتنحصر الخلافات والاختلافات في أداء الحكومة غالبًا، تُظل هذه الخلافات قبة البرلمان، تتنافس بصوت الشعب، تحتكم للقضاء، بسلمية ودون عنف ولا تدخلات خارجية ولا مخاطرة ولا سجون ولا قتل ولا تعذيب ولا مزيد من الفساد والقمع والتخلف.
أما إذا لم يُسمح بذلك، وكانت السلطة مستبدة، أي أنها تمسك بكل السلطات، لا فصل بين التشريع والتنفيذ والقضاء، فإن هذه السلطة لا تسمح بما سبق من تغالب سياسي، وتجعل دائرة المعارضة أوسع، حيث لا تعارض الحكومة فحسب، بل تعارض كل المؤسسات غالبًا، وعلى رأسها القضاء، إذ أنه يتحول لأداة بيد المستبد، المستبد لذي يتحكم بكل شيء، وقد يكون المستبد جيش، أو طائفة، أو أسرة، أو فرد، ويزداد الخطر كلما زاد تمركز الاستبداد، وقد تتمدد مساحة المعارضة حتى تعارض المنظومة كاملة، كالدستور مثلًا عندما لا يكون عقدًا واضحًا لإدارة البلاد يفصل بين الحاكم والمحكوم، والحال أصعب في حال عدم وجود الدستور، وكان الدستور هو مزاج المستبد، وهذه مرحلة من الاستبداد موغلة، وقد تزداد مساحة المعارضة فتعارض حتى اسم البلاد، وخاصة إذا كان ذلك الاسم لا ينتمي للبلاد ولا يعبر عن شعبها، أو قد يستفز ذلك الشعب، وكلما ازدادت دائرة الاستبداد وازداد ظلمه كلما ازدادت دائرة المعارضة وازدادت الحاجة لها.
وإذا كان توسع دائرة الاستبداد يوسع دائرة المعارضة، فإن ما يوسعها أكبر هو أن تكون مطالبها عامة وشاملة، ومشاريعها تهم الجميع، بدل أن تكون فئوية أو مؤدلجة، ولابأس من وجود كيانات تمثل فئات أو ايدولوجيات، ولكن المعارضة المستندة على قاعدة وطنية عامة من المفترض أن تتسع دائرة قبولها، وكلما ازدادت أخلاقيات المعارضة ازداد حصارها لقمع وفساد وتخلف السلطات، وخير المعارضات ما كانت قواعدها تُعنى بالإنسان، وما كان منطلقها حقوق الإنسان، أما ما كان هدفها نفع فئوي أو شخصي فهي تصغر قيمتها الأخلاقية كلما قل حجم من يستفيد منها، وأصغر المعارضات أخلاقيًا هي ما لا تنفع إلا شخص واحد طامح للسلطة، وأنبلها ما كان نفعها للكل، بلا تمييز ولا تفرقة.
إننا -اضطرارًا- لا نعارض حتى الحكومة، فما نحن فيه من رسوخ الاستبداد تجاوز أن نلوم الحكومة، إذ أن الحكومة هنا قد تحولت لأداة بيد المستبد، فالسلطات كلها بيد المستبد، حتى حكومته يتحول وزراؤها إلى دمى أو أراجوزات، لا يملك أحدهم القدرة على اتخاذ قرار، فهو من باب أولى أقل من أن توجه له مساءلة وهو لا دور له إلا أن يكون أداة عند صاحب القرار الحقيقي. إننا -اضطرارًا- لا نملك خيار البرلمان الذي لا نعرفه، ولا خيار الدستور الذي لا نملكه، ولا خيار صوت الشعب الذي لا نسمعه، ولا خيار وطننا مع الشديد الأسف، الذي لا يتسع لصوتنا ونحن نقول “لا تحرقوا وطننا”.
ختامًا، إن خير ما يحمي الأوطان هو وجود حكومة ومعارضة يتنافسان في خدمة الناس، يتصارعان بالكلمة الحرة، يتسابقان لكراسي البرلمان، يتحاكمان عند قضاء مستقل، بلا تخوين ولا قتل ولا تعذيب ولا عنف ولا دماء ولا سيادة متغلب ولا سيف أملح ولا تقطيع جثث ومطاردات وإجرام، فنحد من فرص الفوضى، وفرص الظلم والفساد والتخلف.