{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } [الحج:6] { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } [النحل:3] { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } [آل عمران:3]
فالحق مقصود الخلق.. والحق مقصود التنزيل.. من حقِّ الحقِّ أن يكون هو ضالتنا أنَّى وجدناه فرحنا به وتقبلناه بالقبول الحسن.. من حقِّ الحقِّ علينا أن نقوله لا نخاف في الله لومة لائم، لا من بطش حاكم ولا من عدوان ظالم ولا من لسان آثم.. من حقِّ الحقِّ أن ننطق به ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين.. من حقِّ الحقِّ أن نذعن له ونستسلم لمنطقه.. من حقِّ الحقِّ أن نقدمه على مألوفنا أو عاداتنا أو عواطفنا.. كلنا نقبل الحق حين يكون لنا، لكن متى نصل إلى مستوى أن نقبل الحق حين يكون علينا؟
الحق كلمة مكتوبة، فمتى نرقب الله فيما نكتب؟! وما من كاتب إلا سيفنى *** ويبقي الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفك غير شيء *** يسّرك في القيامة أن تراه! والحق كلمة منطوقة، فمتى نعي أنه: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق:18] ؟؟ ورُبَّ كلمة يقولها المرء ما يتبين فيها يزلُّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.. من حقِّ الحقِّ علينا ألا نظن أن المشكلة هي في قدرة الإنسان على أن يقول أو يكتب، فإذا تسنى له ذلك اندفع بغير تبصّر، وربما قال ما يستحق أن يعتذر منه في الدنيا أو يُحاسَب عليه يوم القيامة. من حقِّ الحقِّ أن يظل المرء وفياً له بالصبر عليه، وأن يظل وفياً له متى بان له، فلا يغلب وفاؤه للمألوف على وفائه للحق المتجدد نتاج معرفة أو نتاج تجربة. من حقِّ الحقِّ أن يضعه المرء في نصابه؛ فيعطي الأصول والمسائل الكبار حقها، ويعطي الفروع والتفاصيل حقها، فلا يُؤصّل فرعاً ولا يُهوّن أصلاً، فالحق كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.. فالأصل لا يُجتثّ ولا يتحرك، والفرع لا يُغرس في الأرض بل يظل في السماء تحركه الريح يميناً وشمالاً، ولكنه متصل بالأصل، فمتى انقطع منه وبان، ذبل ومات.
من حقِّ الحقِّ ألا نختصره في ذواتنا وأنفسنا وألا نظنّ أنّا الناطقون به أبداً، فثمةّ من غالب أمرِه حق وثمة من غالب أمرِه بضد ذلك والكثيرون مُخلِّطون فيهم وفيهم وكلما زاد علمُ المرء تَواضَعَ وعرفَ مقاديرَ المسائل وأدركَ مظنوناتها ويقينياتها؛ كما أشار إليه الأصوليون كالشيرازي وغيره. من حقِّ الحقِّ أن يظل صافياً بعيداً عن اللبس بباطل فالطيب لا يُخلط بالخبيث. من حقِّ الحقِّ ألا يُضرب بعضه ببعض؛ فإذا قال القائل حقاً صُودر قوله بمعارضته بحق آخر وكأن الواجب أن يقول القائل كلَّ الحق في كل وقت، وإنما نزل القرآن منجماً في ثلاث وعشرين سنة، ونزلت أحكامه مفرقة وربما نزل الحكم في سنة، ونزلت شروطه وواجباته وأركانه مفرقة في سنين. من حقِّ الحقِّ أن تنقاد له عقولُنا فلا يعتريها جمود وتحجّر يحرمها من متعة التعايش مع النص الرباني أو التوجيه المحمدي، تمسكاً بشبهة عارضة أو وهم عابر. من حقِّ الحقِّ أن تلين له قلوبُنا؛ فلا نبادره بمعارضة منكرة أصّلَتْها دوافع النفس المريضة، { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } [الزمر:22]. من حقِّ الحقِّ أن تجتمع عليه الناس؛ فهو رباطها ووثاقها ولُحْمتُها، { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى:13]. ومن حقِّ الحقِّ أن ندري أن ثمة حقاً أولى من حق، وحقاً أبين من حق، والحقوق كثيرة وهي تتعاضد ولا تتعاند. وإن كان الحق في مسائل الشريعة واحداً، فإن الناس قد يتفاوتون في تحصيله؛ فيكون عند هذا طرف وعند ذاك طرف آخر. وَكلّهم من رَسولِ اللَهِ مُلتمسٌ *** غَرفاً من البَحرِ أو رَشفاً من الدِّيمِ من حقِّ الحقِّ أن يكون حاكماً لا يُردّ في بيوتنا، وسلطاناً آمراً في دوائرنا السياسية، ومرجعاً مُحكّماً في معاقلنا العلمية، وروحاً سارية في مدارسنا الدعوية. من حقِّ الحقِّ أن نعرضه في أجمل صورة، ونصوغه بأحسن عبارة، ونقدمه في قالب الود والرحمة والإشفاق. من حقِّ الحقِّ أن يكون لفظاً من أفواهنا، ومعنىً في قلوبنا، وسلوكاً في حياتنا، ونظاماً في برامجنا. من حقِّ الحقِّ أن نخدمه ولا نستخدمه. ومن حقِّ الحقِّ أن نحبّ أولئك الذين علّمونا الحق، أو بعض الحق، والحرُّ من راعى وداد لحظة، أو تمسّك بمن أفاده لفظة. كم يشتكي الحق من انتسابات شابت صفاءه! وكم يتألم من أمةٍ تنتمي إليه بألسنتها، وتوظفه حيناً لغير ما يقتضيه، وترده عجزاً، أو هوىً، أو غفلة. فمتى يحقُّ الحقّ؟ ومتى نكفّ عن هذا السؤال الذي نلقيه إلى الآخرين، لنلقيه على أنفسنا؟ متى نُصدِّق ولو مرة واحدة أن الأمر يبدأ "من عند أنفسنا"؟ وأننا أولى بالنظر في أنفسنا وإلجامها بالحق الذي تكرهه وتنفر منه وتتمايل على مدافعته قبل أولئك الآخرين الذين نحاول فرض الحق عليهم؟!
المصدر: الإسلام اليوم