مقالات

من أين نبدأ | من الشعب؟ وماذا يريد؟

الكاتب/ة نصير عبدالله | تاريخ النشر:2021-04-12

من  مختلف الأقطار والبلدان خرجت الجماهير العربية في انتفاضات وثورات 2011 تحت شعار واحد جمعها: “الشعب يريد إسقاط النظام”، شعار عبّر عن تجاوزٍ للمأزق السياسي والاجتماعي الذي عشناه في العقود القليلة السابقة لذاك العام الثوري وتوق نحو التحرر والانعتاق، ولكن، لنا الآن أن نرى أنه عبّر أيضًا عن المأزق الذي وقعت فيه تلك الحركات الثورية نفسها، فالهدف الوحيد الجامع لـ “الشعب” كان حينئذ “إسقاط النظام”.

سرعان ما اتضح بعد ذلك أن هذا الاجتماع على الإسقاط أغفل أمورًا كثيرة، منها وجود خلافٌ بين الناس حول من هو الشعب، ومعنى إسقاط النظام (ناهيك عما يتلوه)، ومؤشرات هذا الخلاف طفت فوق السطح منذ البداية، وإن واستشهدنا بمصر وقِسنا على بقية الأقطار، فنرى مثالًا تعمّدًا لدى البعض في تأجيل التطرق لقضايا “خلافية” مثل ما سمّي بـ “المسألة القبطية”، بسبب ما ظهر من “التحام غير مسبوق للجماعة المصرية” كما أشار أحد المراكز البحثية.

فإن بدأنا بمسألة “من هو الشعب؟”، فأساسها مسألة القاعدة المشتركة التي ينطلق الناس منها للخوض في شؤونهم وشؤونهن، وإن كان المنطلق يتضمن تجاهل القضايا التي يزعم أنها ليست “جامِعة” أو تأجيلها، وعلينا دائمًا أن نسأل عندما توصف قضية ما بأنها خلافًا لغيرها قضيةٌ جامعة: “جامِعة لِمَن؟”، فالبعض مثلًا يقول إن مسألة إسقاط نظام الولاية ليست جامعة بل يراها قضية فئوية ضيقة لأنها خاصة بفئة واحدة (أي: النساء)، وكأن التسلّط الأبوي لا يضر بحياة الأولاد (والرجال) الذين يقاسون هذا البطش (وإن ساهموا فيه واستفادوا منه أيضًا).

نحن هنا نتحدث عن قاعدةٍ يسهل دكّها حالما تصبح القضايا المؤجلة عاجلة، بل وقد تضحي إحداها القضية الحاسمة لمصير الحراك بعد أن اعتاد روّاده ورائداته العزوف عن معالجتها، والحصيلة النهائية هنا هي أن الجماهير اجتمعت لتكوّن شعبًا متّحدًا على قاعدة من الخوف من أن يظهر الاختلاف أو الخلاف للعلن، قاعدةٌ تبعث في الناس دافعًا للتكتم والتستر والقمع، أي لإبقاء الأمور على ما هي عليه.

لدينا طريقٌ آخر، خيار تأسيس “الشعب” على قاعدة من التعاضد والتساند، وما يتضمنانه من التزام تقديم العون لمختلف الناس – “مكوّنات الشعب” – من مختلف الوضعيات الاجتماعية، وتدريب وتدرّبٍ على القبول بالمحاسبة عند الخطأ، ومعالجة مظالم الناس حتى لو كان مصدر الظلم شخصًا مظلومًا هو الآخر، وبهذا النحو يجري العمل على معالجة المشاكل؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أثناء التحرّك بدل الانتظار حتى ذاك اليوم الموعود حين يبلغ الحراك منتهاه.

والشعار نفسه صار محل اختلاف، فجزئية “إسقاط النظام” صارت مخيفةً للبعض، خصوصًا مع وعيد الأنظمة بالموت الذي ستنزله على الناس لو أرادوا التغيير يومًا، والمنهجية العدمية التي يلتزمها الساعون وراء البطولة الشخصية والعنترية إزاء هذا الوعيد دون اكتراثٍ لحياة الناس في سبيل تحقيق هذا الهدف، هدف “الإسقاط”، وهو كل ما يعنيهم، أما كل ما نخسره من أرواح فهي “تضحيات ضرورية” (مرةً أخرى: ضرورية لِمَن ولِماذا؟).

والحق يقال، إن تحديد هدف ما بعد “الإسقاط” ليس بالأمر السهل أبدًا، ولن يسعفنا الاكتفاء – مثلًا – بما سبق تجربته (نظام برلماني، انتخابات حرة ومستقلة، إلخ) دون التطرق لضرورة تكييف هذه المؤسسات الاجتماعية – السياسية بطرقٍ تتصدى للإشكالات التي تعاني منها أي دولة في الجنوب العالمي من تدخّلات الدول الكبرى، مثل ما حصل مع الدستور التونسي ما بعد الثورة من إسقاط مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني (وآخر يطلب من فرنسا الاعتذار على سنوات الاستعمار) خوفًا من الضغوطات الدولية، فحتى “العقد الاجتماعي” المفترض أن يكون أساسه إرادة الناس أثرت فيه إرادة قوىً خارجية لا تتفق مصالحها ومصالحهم.

علينا البناء على ما جُرِّبَ بالطبع، ولكن ألا نكتفي بما جُرِّب (ونجح) في تلك الدول الكبرى، بل أيضًا من تجارب الشعوب التي سعت لبناء أنظمة ديمقراطية تحتكم لإمرة الناس وعملت على توسعة مفردة “الشعب” لكيلا يستثنى منها أحد، وأن نتعلم من كل ذلك لا الانتصارات فحسب بل حدود تطبيقها، وهكذا فقط سنتمكن من تحديد ما يريده شعبنا، أي نحن جميعًا.