عاد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، المعروف بابن سعود، إلى الجزيرة العربية وهو يسعى لاستعادة ما اعتبره إرثًا عائليًا يعود لآبائه وأجداده بعد سقوط الدولة السعودية الثانية. في بداية تحرّكه، حاول أن يُقدّم هذا السعي على أنّه حقٌّ تاريخيٌّ مشروع لا يقبل الجدل، غير أنه استوعب مبكرًا أن ادعاء المشروعية بالاستناد إلى الإرث الأسري وحده لا يكفي لتوحيد القبائل المتفرقة أو ضمان ولائها في بيئة سياسية واجتماعية معقدة. أدرك أنّ الرهان على شرعية النسب قد يبدو محدودًا وسط سياقٍ يحتاج الحاكم فيه إلى سندٍ ديني وعرفي يتجاوز مجرد رابطة السلالة. في هذا الإطار، التمس ابن سعود في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مرتكزًا يستطيع بواسطته تأمين شرعيةٍ دينية تُعزز مكانته وتتيح له إقامة مشروعٍ سياسي واسع. كانت هذه الدعوة الدينية قد أثبتت سابقًا مقدرتها على جمع القبائل تحت لواء واحد، فتحوّل التحالف معها إلى قوةٍ رمزيةٍ تمنح ابن سعود عمقًا معنويًا جديدًا. وعلى ضوء هذا التحالف، انتقلت سلطة ابن سعود من مجرد زعامةٍ قبليةٍ تعتمد على حق عائلي مفترض، إلى مشروعٍ سياسي ديني يمتلك نفوذًا متصاعدًا في نجد، ويؤسس قاعدة دعمٍ متينة تمهيدًا لتوحيدٍ أوسع.
انطلاقًا من ذلك، تبلور أمام ابن سعود إدراكٌ أوسع لدور الدين في استقطاب العشائر المختلفة، إذ لم تَعُد القبيلة وحدها مركز الولاء، بل صار الانتماء العقائدي عاملًا فاعلًا في حشد الطاقات البشرية وتوجيهها نحو هدفٍ مشترك. وغدا التحالف مع الوهابية أساسًا تُبنى عليه سياسات التوسع، سواء من خلال حشد أنصارٍ ودعاةٍ ينشرون دعوة التوحيد، أو عبر تجنيد مقاتلين عقائديين مستعدين للدفاع عن الرؤية الدينية المشتركة. وعلى المستوى الاجتماعي، نجحت هذه الصيغة في تخطّي حالة الفرقة القبلية، فأعاد ابن سعود تدوير منظومة الولاءات التقليدية لتصبّ في خانة المشروع السياسي الذي تتلاقى فيه المصلحة الدينية مع الإرث العائلي. وقد استدعى هذا التحالف إعادة ترسيم العلاقات بين شيوخ القبائل، إذ بات على هؤلاء أن يعترفوا بقائدٍ واحدٍ لا يستمد قوته من نسبه أو من بسالةٍ فردية فقط، بل من أُسُسٍ دينيةٍ تضفي شرعيةً غير قابلة للطعن.
ومع انتشار نفوذه وظهور معالم دولته، برزت قضية “الملك” التي أرادها ابن سعود عنوانًا لحكمه، لكنها ولّدت خلافًا جوهريًا مع الإخوان (إخوان من أطاع الله) الذين كانوا أساس الجيش الوهابي الذي اعتمد عليه. فقد رأى الإخوان أن لقب الحاكم في الإسلام ينبغي أن يكون "إمام المسلمين"، نظرًا لأنه يتولى السلطة السياسية والدينية معًا، وأن وصفه بالملك يحمل في طياته إيحاءً دنيويًا يعكس التسلط والاستعلاء على نحو لا ينسجم مع نظرتهم المتقشفة للسلطة الإسلامية. وجدوا أن طقوس البروتوكول الملكي تتعارض مع مبادئ التواضع والزهد التي قامت عليها عقيدتهم، واعتبروها علامةً على انحراف الحكم عن هدفه الديني ووسيلة لخدمة طموحاتٍ شخصية. تشير بعض الوثائق إلى أن ابن سعود تبنّى صيغة "الملك" متأثرًا برؤيةٍ استعماريةٍ بريطانية، إذ كانت بريطانيا تعدّ قيام نظامٍ ملكي قويٍّ في نجد والحجاز ضمانةً لتثبيت الاستقرار ومنع أي تمدد عثماني أو نفوذٍ منافس. ومع ذلك، لم يرافق هذا التبني وعيٌ عميقٌ بالفروق الكبيرة بين مفهوم "King" في السياق الإنجليزي، المحكوم بقوانين ودساتير منذ قرون، ومفهوم "ملك" في اللغة العربية حيث يرتبط اللفظ بمعاني الامتلاك الشامل، بما فيه الأرض ومن عليها، ويشير إلى سلطةٍ شبه مطلقة.
حين نمعن النظر في هذا السياق، ندرك أن هذا البعد اللغوي والفكري أسهم في تكريس تصورٍ يضفي على الحاكم هيمنةً كاملة ويعدّه صاحب تصرفٍ أعلى لا تحدّه حدود، ما أدى إلى تصادمٍ مع فئاتٍ تفضل لقب "الإمام" بصيغته الدينية المتواضعة. ورغم أن هذه الخلافات لم تمنع ابن سعود من ترسيخ حكمه السياسي، فإنها أورثت الثقافة السعودية حالةً من المزج بين الدلالات الدينية للشرعية والتقاليد الملكية، ما أدى إلى بروز خطاب يمجّد الحاكم بوصفه "ملكًا" بالمعنى الفضفاض للكلمة. وبرزت في هذا السياق أمثلةٌ عديدة، منها الشيلة المشهورة "هذا السعودي فوق فوق"، التي يرى فيها البعض سلامًا ملكيًا غير رسمي، إذ تتضمن عبارات تشيد بالملك على أنه مصدر العز والمجد، وترسّخ الرؤية القائلة بضرورة الولاء المطلق لسلطته. ومن ذلك ما جاء في كلماتها: "في ظل كنق المملكه سلمان والعز أدركه والمجد دربه يسلكه هذا السعودي فوق فوق"، وهي صياغاتٌ تؤكد صورة "الملك" بوصفه صاحب سيطرةٍ كاملة يحظى بالتمجيد بوصفه أساسًا للمجد والعزة، ويتلقى طاعةً لا تُناقش.
وقد أسهم هذا الدمج بين دلالات "الملك" بالعربية وصورته في السياق الغربي في تكوين ثقافةٍ سياسيةٍ تمزج بين رمزية دينية واسعة وشرعيةٍ ملكية تضع الحاكم في موضعٍ منيعٍ أمام النقد أو المساءلة، فيما استمر الصراع النظري حول الفروق بين الإمام والملك والحاكم السياسي ماثلاً في تلافيف هوية الدولة. وحين نقارن مفهومي "King" والملك في السياقين الإنجليزي والعربي، نجد أن التجربة الغربية تداخلت فيها عوامل تاريخية طويلة الأمد جعلت الملكية تتحول من مطلقةٍ في بعض حقب العصور الوسطى إلى دستورية مقيّدة مع مرور الوقت. فقد تعززت فكرة التقييد منذ ظهور الماغنا كارتا عام 1215، وتطورت بتقاليد دستورية راسخة تمنع شخص الملك من أن يختزل الدولة في ذاته، بحيث يُنظر إلى "The Crown" بوصفه رمزًا للدولة لا للشخص.
أما في نسقٍ عربيٍّ يضفي على كلمة "ملك" معنىً مشتقًا من الامتلاك الكامل، فقد اتخذت الملكية بعدًا شموليًا وصارت جزءًا من الشرعية الدينية التي لا ترى فصلًا بين شخص الحاكم والدولة ذاتها. وعندما استعير لقب "ملك" من النمط الإنجليزي ووضع على رأس السلطة السعودية، حدث نوعٌ من التداخل بين الشرعية الدينية والشرعية السياسية المطلقة، ما أضفى على الملك صبغةً تقترب من الهالة القدسية وتسِمُه بهيمنةٍ لا تخضع للتحديد المؤسسي ولا تفرق بين شخصه والكيان العام. وقد تفاقم هذا التداخل كلما ازداد نهم الحكام إلى توسيع دائرة السيطرة واستثمار الموارد، دون إخضاع سلطتهم لأي رقابةٍ فعالةٍ من قبل مؤسسةٍ تشريعية أو شعبية.
في ضوء هذه المعطيات، يتضح أن اللقب الملكي لم يكن مجرد تسميةٍ تجميليةٍ أو دلالةٍ شكلية، بل تحوّل إلى معطى مؤثر في نظرة المجتمع إلى الحاكم وإلى علاقته به، وخاصةً حين تتلاقى في شخص هذا الحاكم شرعيتان: شرعية الوراثة وشرعية الدعوة الوهابية. وهكذا يزداد الخلط بين مكانةٍ دينية تُضفي قدسية رمزية ومفهومٍ سياسي يتبنى سلطوية متشددة، مما يشيع في الثقافة العامة شعورًا بالتفويض الكامل للسلطة، ويزيد من حساسية النقد أو الاعتراض.
التوسع والتحالفات الاستعمارية: من نجد إلى الدولة السعودية الثالثة
وفي مرحلةٍ أخرى، كان إقليم نجد في نظر القوى الكبرى منطقةً شاسعةً غير مهمة استراتيجيًا، فلم يروا فيها في بادئ الأمر سوى رمالٍ وأساطير. غير أن صعود الدعوة الوهابية وما تتيحه من فرص توحيدٍ عقائدي لكتلٍ قبلية جعل بريطانيا تغير حساباتها، خصوصًا مع تزايد طموحات الشريف حسين التي بدت أوسع مما تحتمله سياساتها في الحجاز. ففي الوقت الذي كان الشريف حسين يسعى فيه للتوسع ومد نفوذه إلى مناطق متعددة، رأت بريطانيا أن ابن سعود قد يشكل بديلاً أكثر انضباطًا، وأقل إثارةً للعقبات على المدى الطويل. دعمت بريطانيا الشريف حسين في البداية، لكنها وجدت في ابن سعود بديلًا موضعيًا يُنهي حلفها مع الشريف عندما تراه مصلحةً لها، فوفرت له موارد عسكرية وسياسية مكّنته من توسيع نفوذه عبر حروب خاطفة أو اتفاقياتٍ موضعية مع قبائل مجاورة.
هكذا برز جيش الإخوان بعقيدته الصارمة لتأدية مهمات التوسع، لكنه استخدم أساليب عنيفة أثارت الرعب في أرجاء الحجاز، فكان انتصار ابن سعود أشبه بخليطٍ من الرهبة والسيف. وتذكر بعض الروايات أن غارات الإخوان حملت طابعًا شديد القسوة، ما جعل القبائل المناوئة تفضّل الخضوع على الدخول في مواجهةٍ تهدد وجودها بالكامل. مع ذلك، كان ابن سعود يدرك أن احتفاظه بهذا الجيش العقائدي يحمل في طيّاته خطر انقلابه عليه يومًا ما إذا شعرت العناصر الوهابية بأن مشروعه السياسي لا يلبي سوى مصالحه الخاصة. دارت اللعبة السياسية على أساس موازنةٍ دقيقة بين حماسة الإخوان واتفاقاتٍ مع البريطانيين، وهي خيوطٌ واهية كانت مرشحةً للانقطاع في أي لحظة، لا سيما عندما تتعارض المصالح الخارجية مع الرؤى المتشددة التي يتبناها الإخوان.
ضمن هذا الإطار، يمكن القول إن هيمنة ابن سعود الفعلية لم تكن مجرد ثمرة لإمكاناته الشخصية، بل نتاجًا لدينامياتٍ إقليمية استثمر فيها بحنكة، إذ أدار علاقةً معقدة مع القوى البريطانية، واعتمد عليها في إضفاء شرعية خارجية على حكمه والترويج له في المحافل الدبلوماسية. كانت بريطانيا تنظر إلى الدعوة الوهابية بوصفها قوةً ثوريةً خطيرة لكن مجدية، واعتمدت على براعة ابن سعود في التحكّم بها وتوجيهها إلى ما يخدم مصالحها. تخلّت عن الشريف حسين مفسحةً الطريق أمام سيطرة ابن سعود على الحجاز، في خطوةٍ غيّرت خريطة القوة في الجزيرة العربية. غير أن هذه اللحظة دفعت الإخوان إلى التمرد، فقد صاروا يتطلعون إلى مواصلة التوسع ونشر رؤيتهم الدينية بلا سقفٍ محدد، في حين كان ابن سعود يفكّر في استكمال رسم حدودٍ لدولته تحت مظلة السياسة البريطانية.
حاول بدهائه ترويض الإخوان، لكنه وجد نفسه أمام تحدٍّ مستمر قد يهدد مشروعه السياسي كلما طالبوا بتنفيذ مشروعهم العقائدي كاملًا. وقد يُعزى نجاحه النسبي في هذه المرحلة إلى قدرته على المناورة، حيث أقنع الإخوان بأن هذا التوقف المؤقت عن التوسع ليس تنازلًا عن المبادئ، بل تكتيكٌ مرحلي يحفظ لهم قوتهم ويمنح دولتهم وقتًا لترسيخ أقدامها. وفي الوقت نفسه، قدم للبريطانيين ضماناتِ عدم انفلات القوة الوهابية خارج السيطرة، ما هدأ مخاوفهم من قيام كيانٍ يستعصي على النفوذ الاستعماري.
ومع اكتمال توحيد معظم أقاليم الجزيرة العربية، وُلدت الدولة السعودية الثالثة. صارت مناطق نجد والحجاز والمنطقة الشرقية وغيرها تحت سلطة ابن سعود، الذي استطاع تحقيق استقرار لم تنعم به الدولتان السعوديتان السابقتان. لكن هذه الدولة بقيت بحاجةٍ إلى عوامل تضمن بقاءها، فكان اكتشاف النفط في المنطقة الشرقية لحظةً مفصلية غيّرت مصيرها بصورةٍ جذرية. أدى النفط إلى تحولٍ هائل في بنية الدولة السعودية الثالثة من كيانٍ تقليدي يتعامل مع عالمٍ محدود، إلى دولةٍ حديثةٍ ذات تأثير إقليمي ودولي، وأصبح اقتصادها معتمدًا على ثروة ضخمة جعلتها محط أنظار المصالح العالمية. وقد ساهمت صناعة النفط المستجدة في تأسيس بنى تحتية تتفوق على كل ما عرفته الجزيرة العربية قبل ذلك، وجعلت الدولة تمتلك مفاتيح قوةٍ غير مسبوقة.
ترافق هذا التطور الاقتصادي مع تغيّرات اجتماعية هيكلية، إذ بات الكثير من سكان المناطق القبلية يهاجرون إلى المدن الناشئة، ليعملوا في حقول النفط أو أنشطة مرتبطة بخدمات الشركات العاملة في مجال التنقيب. وبدأ يتشكل نمطٌ اقتصادي حديث يدخل في صلب الأنماط القبلية، فينتج تمازجًا فريدًا بين الولاء القبلي والدوران في فلك الدولة المركزية. وعلى مستوى السياسة الخارجية، أتاح النفط للسعودية منصةً للتفاوض مع القوى العالمية، ما أكسبها استقلالية نسبية مقارنةً بدولٍ عربيةٍ أخرى بقيت مرتهنة للانتدابات أو الالتزامات الإمبريالية. لكن هذه الاستقلالية كانت مشروطةً بضمان مصالح تلك القوى في استخراج النفط وتصديره.
عصر النفط وأزمة الهوية: جدل التبعية والاستبداد
ينقل برنارد لويس في نقده للاستبداد العربي أن هذا المورد أدى إلى إحداث انقلابٍ في علاقة الحكم بالمجتمع، إذ إن الدولة الغنية بالنفط لم تعد مضطرةً إلى تحميل مواطنيها عبء الضرائب أو السعي إلى تطوير مواردهم، ومن ثم لم يعد الولاء مرتهنًا بقنوات المشاركة السياسية أو بتوازناتٍ اقتصاديةٍ دقيقة، بل صارت السلطة توزع بعض العائدات بأساليبها الخاصة وتمسك بدفة القرار دون حرجٍ أو مراجعة. في الوقت نفسه، قفزت حظوة السعودية في العلاقات الدولية بفضل ما تملكه من سلعةٍ حيوية لاقتصاد عالمي يتعطش للطاقة، ما جعل القوى الكبرى تنخرط معها في علاقاتٍ وثيقة تكفل لهذه القوى نفوذًا مستمرًا. ومع أنّ النفط ساهم في منح البلاد وزنًا دوليًا واضحًا، فقد حمل في طياته قلقًا من تعرض الهوية والقيم لإعادة تشكيل، مع تصاعد الأنماط الاستهلاكية ومفاهيم الرفاه غير المسبوقة في بيئةٍ صحراويةٍ لطالما اشتهرت بصلابة العيش وقسوة الطبيعة.
ويذهب لويس إلى أن هذا التحول الريعي قد شجّع نمطًا من السلطوية الحديثة، فلا حاجة للدولة إلى فرض ضرائب على الشعب، ولا حاجة توازيها إلى المراقبة المجتمعية أو المساءلة الشعبية. ومع انتقال المجتمعات من شظف العيش إلى وفرةٍ واسعة من الخدمات والسلع، تجلت مظاهر الرفاهية كواقعٍ جديد ينسخ ثقافة الصبر والجلد والشعور بقيمة التضامن، إذ حلّ محلّها استهلاكٌ مُترف يغيب عنه الإحساس بالحدود الواقعية. أما على صعيد الأنظمة السياسية، فلم يعد هناك حافزٌ لعقد عقدٍ اجتماعيٍ حقيقي، فتضخمت سلطة الدولة المركزية مدعومةً بالأجهزة البيروقراطية والأمنية والإعلامية، ومعها تآكلت فكرة المشاركة السياسية وازدادت سطوة الاستبداد.
وفي خضم هذه التحولات، جرت إعادة إنتاج القيم القبلية في شكل شعاراتٍ تدعم مشروعات الدولة الإقليمية والدولية، بدل أن تبقى تلك القيم العريقة جزءًا أصيلًا من هويةٍ اجتماعيةٍ ترفض المهانة وتتمسك بالمشورة والتلاحم. ومن اللافت أن الاستخدام الرسمي لهذه القيم في خطابات الإعلام والتعليم جعلها مجرد أدواتٍ سياسية تُخدَم بها مآرب السلطة، سواء في الداخل لتأكيد الولاء أو في الخارج لترويج صورةٍ مشرفة عن التلاحم الوطني.
رافق هذا التطور بروز إشكاليةٍ جديدة تتعلق بمصير الإنسان العربي وبحثه عن التوفيق بين هويته الثقافية والدينية، وبين نظامٍ اقتصادي وسياسيٍ يستمد قوّته من الثروة والهيمنة المادية. قدم النفط وعودًا كبرى، لكنه أثار مخاوف على صعيد الثقافة والقيم حين بات المصدر الأساسي لتمويل السلطة وجزءًا من شبكة الهيمنة الخارجية في الوقت نفسه. وفي هذا السياق، شدد برنارد لويس على أنّ الدولة الريعية تصبح أقل اكتراثًا بمطالب الناس، لأنّ وفرة النفط تجعلها قادرة على تأمين احتياجاتها المالية دون الحاجة إلى خدمات أو ضرائبٍ من المجتمع. وأسهمت هذه المنظومة في تراجع قيمة المشاركة السياسية أو المحاسبة، بحيث أصبحت مركزية القرار راسخةً وتقترب من الطابع القداسي، مع تغييبٍ لأي محاولةٍ لربط ثراء الدولة بخدمات متفقٍ عليها جماهيريًا.
برزت كذلك قضية الهوية السعودية بوصفها هويةً مشروطةً بشخص الملك، حيث لا تجد مكانًا للانتماء خارج هذه الدائرة، ويبدو حتى أفراد العائلة الحاكمة محكومين بسلطته المطلقة كغيرهم من أبناء الرعية. وفي عمق المشهد، يتبلور النفوذ الخارجي بوصفه قيدًا غير مرئي على إرادة الملك نفسه، إذ يتحرك بما تسمح له به الاستراتيجيات الأمريكية، ولا يملك حريةً مطلقة بقدر ما ينفذ دورًا مرسومًا ومطلوبًا في اللعبة الإقليمية والدولية. يظهر العجز عن بناء هوية وطنيةٍ متجاوزة كلما وجدنا أن المناهج الدراسية التي يُفترض أن تُصاغ باستقلالية، تخضع لمراجعات لجانٍ صهيونية تفرض رؤيتها على المحتوى، فيما يُعَدّ علامةً بالغة الدلالة على عمق ارتباط النظام بمؤسساتٍ أجنبية لا تكترث لهويةٍ وطنيةٍ متماسكة.
وتتشابه هذه الحالة مع الأصوليات التكفيرية التي لا تقرّ بوجود دولةٍ وطنية على الإطلاق، وتسعى إلى إقامة إمارة أو خلافة، فتنتهي بشكلٍ أو بآخر إلى هدم الكيانات الوطنية لصالح مشاريع عابرةٍ للحدود، في التوقيت نفسه الذي تنشط فيه قوى استعمارية تهدف إلى توسيع نفوذها وتقويض أي مشروعٍ للاستقلال الحقيقي. وقد أسهمت نخبٌ عربية عديدة، درست في جامعات الغرب وعادت بعقدة دونيةٍ تجاه مجتمعاتها، في تأبيد هذا الوضع، إذ تبنت مناهج فكرية مستوردة تتحدث عن التنوير والاشتراكية والقومية المركزية والانتخابات، لكنها أبقت الأوضاع السياسية كما هي، بل ربما ساعدت في تغوّل الاستبداد بإطلاق شعاراتٍ تسمح بتمرير تحالفاتٍ مع القوى العظمى تحت ادعاء نشر الحداثة أو ضمان المصالح المشتركة.
ومن ثم، صار من الطبيعي أن يستفحل الاستبداد الداخلي مستندًا إلى عصبيةٍ تحظى بالدعم الخارجي، في حين تغرّد أصولياتٌ متشددةٌ خارج حدود الدولة وتلتقي في الآن ذاته مع مخططات القوى الكبرى التي تجد مصلحتها في تفتيت المجتمعات. على هذا النحو، يتشكل تساؤلٌ حول مدى تداخل هذه العصبيات القبلية المسيطرة مع الأصوليات التكفيرية ومع النخب الأيديولوجية والقوى الاستعمارية عمومًا، وما إذا كان هذا التداخل تجاهله الجميع عمدًا أو تسامحوا معه من أجل أن يظلّ كل طرفٍ مستفيدًا من معادلةٍ تبدو معقّدة لكنها تضمن مصالحه. ولعل وصف تلك القوى الاستعمارية بـ"القوى الاستحمارية" يشير إلى دورها التاريخي في إعادة رسم الخرائط وبسط التبعية على حساب الكيانات الوطنية والإنسانية في المنطقة، حيث يتلاقى الاستبداد والعصبية والأصولية مع هيمنةٍ عالميةٍ تحرّكها مصالح اقتصادية وعسكرية.
هكذا تكتمل صورة المشهد السعودي الحديث من خلال شواهد عودة ابن سعود وترسيخ ملكه، وتمكينه عبر دعمٍ بريطاني، ثم تدعيمه بريع النفط وامتداداته الدولية، وتعزيزه بشرعيةٍ دينيةٍ واستخدامه قوة الإخوان التي رفضت ألقاب الملكية وأصرّت على إمامةٍ أكثر ارتباطًا بروح الإسلام. ومع تقدّم الزمن، بقيت الدولة السعودية الثالثة قائمة ولم تنهار، لكنها عرفت تغيرًا جوهريًا بعد اكتشاف النفط، ما جعلها تتطوّر من سلطةٍ نشأت عبر توازناتٍ داخلية إلى كيانٍ ذي ثقل اقتصادي كبير يخضع رغم ذلك لتفاهماتٍ دولية تقيده. وقد طرحت هذه التحولات إشكالياتٍ عميقة تتصل بمستقبل الهوية والقيم في مجتمعٍ يتحوّل من حياةٍ تقليديةٍ صعبة إلى رخاءٍ نفطي ورفاهيةٍ استهلاكيةٍ مفرطة، وبمصير المشاركة السياسية في ظلّ دولةٍ ريعها الكبير يجعلها أقل حاجة إلى مواطنيها، وأكثر ارتباطًا بمصالح خارجيةٍ متشابكة.
وفي الوقت ذاته، تستمر التوترات بين "الملك" و"الإمام" و"الحاكم السياسي" دون حسمٍ واضح، حيث اندمجت الشرعية الدينية مع الشرعية الملكية المطلقة، وترك هذا الامتزاج أثره في كل تفصيلٍ يتعلق بهوية الدولة وطبيعة الحكم. ومن هنا تطرح تساؤلاتٌ شتى حول المسافة الفعلية التي تفصل بين الشعارات الكبرى للسلطة والدور الوظيفي الذي تؤديه لصالح قوى عالمية، وعن مآلات الإنسان العربي في هذه المنطقة، وهو يجد نفسه في هويةٍ مشروطةٍ بإرادة ملكٍ لا يبدو بدوره ممتلكًا لكامل إرادته، وخاضعًا في الوقت عينه لاشتراطاتٍ أوسع تنطلق من استراتيجياتٍ خارجية.
هكذا تتضح المحصلة العامة للمسار الذي اتخذه ابن سعود في تأسيس الدولة السعودية الثالثة وتثبيت أركانها، فهو وإن نجح في بناء كيانٍ متماسكٍ ضمن حدود الجزيرة العربية، اعتمد اعتمادًا كبيرًا على إتقان لعبة التوازن بين المشروعية الدينية والدعم الاستعماري، وافتقد إلى مشروعٍ حضاري يتجاوز المصالح الضيقة. جاء النفط لاحقًا ليرفع من مكانة هذا الكيان إلى مستوىٍ دولي لكنه كرّس في الوقت نفسه اعتماده الخارجي، وجعل الدولة أسيرة حسابات القوى الكبرى التي منحتها ما تحتاجه من حماية واعترافٍ مقابل استنزاف الثروات وإعادة توظيفها في خدمة مصالح عالمية أوسع.
ورغم أن هذه المعادلة ضمنت بقاء الدولة بعد وفاة ابن سعود، بخلاف ما جرى مع الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، فقد خضعت الدولة لتطوّراتٍ نوعية غيّرت بنيتها جذريًا، وتركت المجتمع السعودي في مسارٍ ملتبسٍ بين خطابٍ ديني تقليدي وآليات حكمٍ حديثة، وبين ولاءٍ ملكي مطلق وارتباطٍ خارجي لا فكاك منه. ورغم الاستقرار الظاهري الذي كفله امتلاك الموارد النفطية، لم يخل المشهد من تحدياتٍ تعصف بالتماسك الداخلي وتخلق تشققاتٍ بين حرسٍ قديمٍ متمسكٍ بروح الزهد الديني، وشبابٍ يطمح إلى الانفتاح والمشاركة في إدارة الدولة، وسط قلقٍ من أن يؤدي أي تحركٍ نحو الإصلاح إلى إثارة حفيظة مراكز القوى العالمية التي تفضل إبقاء الوضع على ما هو عليه.
وللتذكير بما سبق، فقد تراكمت في هذه المرحلة جملةٌ من الإشكاليات المرتبطة بتداخل السلطة الدينية والملكية المطلقة، والتأثير الخارجي المتزايد، والتحولات الاجتماعية الناتجة عن الثروة النفطية.
وفي كل الأحوال، بقيت الأسئلة المتعلقة بالهوية والمواطنة والشرعية السياسية مطروحة دون إجابةٍ شافية، واستمر التداخل بين العصبيات القبلية والدينية والنخب الفكرية والقوى الخارجية قائمًا، ما أضفى مزيدًا من التعقيد على المشهد وجعله مفتوحًا على احتمالاتٍ متباينة تواصل التأثير في مصير المنطقة وتشكيل وعي أبنائها. وفي ظل هذا التعقيد، ما زال مفهوم "الملك" في السياق السعودي يستمد قوته من ميراثٍ لغوي وديني وسياسي متداخل، يجعل المسافة بين الحاكم والدولة شبه معدومة، ويعزز رهانات الولاء على حساب أي خطابٍ يطمح إلى مساءلة السلطة أو إلى إيجاد ضماناتٍ فعليةٍ تكفل للمجتمع دورًا حقيقيًا في صياغة مستقبله.