مقالات

سجل الحروب الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية: من النصر إلى الاستنزاف

الكاتب/ة مروان النجدي | تاريخ النشر:2025-06-26

حين نراجع السجل العسكري الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، نجد أن القوة العظمى التي خرجت منتصرة من الصراع الأكبر في تاريخ البشرية لم تستطع أن تحافظ على انتصارات واضحة ومقنعة في الحروب التي خاضتها لاحقًا، بل دخلت نمطًا متكررًا من التدخلات التي تنتهي إما بهزائم مدوية أو بنجاحات جزئية لا تُحقق الأهداف الكبرى التي أُعلنت من أجلها. لقد بدأت أمريكا مع الحرب الكورية (1950–1953) بحملة لصدّ التمدد الشيوعي، وانتهت بوقف إطلاق نار كرّس تقسيم شبه الجزيرة، دون أن تسقط كوريا الشمالية أو تُحسم المواجهة الأيديولوجية. أما في فيتنام (1955–1975)، فكانت الهزيمة تامة، انسحاب مذلّ وسقوط كامل للجنوب، مع انهيار سياسي داخلي أمريكي ظلّت آثاره تُلاحق الإدارات لعقود.

ثم جاءت تدخلات أمريكا المحدودة في غرينادا (1983) وبنما (1989)، وكانت أشبه بعروض قوة ضد خصوم صغار، حققت فيها أمريكا انتصارات سريعة لكنها بلا قيمة استراتيجية تُذكر، لأن الخصوم لم يكونوا أصلًا قادرين على الصمود. في حرب الخليج الأولى (1991)، استطاعت أمريكا قيادة تحالف دولي لإخراج العراق من الكويت، وهو انتصار ميداني بلا شك، لكنه لم يُسقط النظام العراقي، ولا أنهى التهديد الذي مثّله لاحقًا، بل فَتح الباب أمام فوضى لاحقة انتهت بغزو ثانٍ. وفي أفغانستان (2001–2021)، خاضت أمريكا أطول حروبها، وأسقطت طالبان ثم عادت لتُسلّم لها البلاد بعد عشرين عامًا، في انسحاب فوضوي أثبت أن لا جدوى من البقاء في أرض لا تعرف أمريكا كيف تبني فيها الدولة. أما العراق (2003–2011)، فقد مثّل لحظة سقوط أخلاقي واستراتيجي، حين غزت أمريكا بلدًا دون مبرر حقيقي، وأسقطت نظامه لتفتحه أمام التمزيق الطائفي والاحتلال غير المباشر الإيراني، فضلًا عن ولادة تنظيم الدولة الإسلامية في رحم الفوضى التي خلّفها الانسحاب.

كل هذه الحروب، حين تُفكك وفق معيار "هل تحققت الأهداف؟ وهل استقر ما بعد السقوط؟"، تُظهر أن أمريكا تفوقت في القصف، لكنها فشلت في البناء، ربحت الساحة ثم خسرت المعنى. إنها تنتصر حين يكون الخصم صغيرًا، والهدف محدودًا، والانسحاب سريعًا، لكنها تخسر – دائمًا – حين تدخل إلى قلب مجتمعاتٍ ترفض الاحتلال حتى لو جاء باسم الحرية.


هل ستكون الحرب مع إيران من نوع الحروب التي تكسبها أمريكا أم تلك التي تخسرها؟

إذا تقرر أن تدخل أمريكا في حرب ضد إيران، فإن السيناريو الذي يُرسم لا يشبه حروبها السريعة، بل يتقاطع في جوهره مع ما عرفته في فيتنام وأفغانستان والعراق. إيران ليست مجرد دولة عادية، بل كيان مركب يجمع بين مؤسسات رسمية وتنظيمات غير رسمية، بين جيش تقليدي وميليشيا عقائدية عابرة للحدود، بين نظام ديني مركزي وشبكة مقاومة تمتد من اليمن إلى لبنان. هذا النوع من الخصوم لا يُسقطه القصف، ولا يُهزم بإسقاط العاصمة، لأنه لا يُقاتل كدولة فقط، بل كفكرة. يضاف إلى ذلك أن العمق الجغرافي والبشري الإيراني ضخم، يجعل من التدخل البري كابوسًا لا تستطيع أمريكا أن تتحمله، وأن المعركة لن تكون قصيرة المدى، بل ستتحول سريعًا إلى حرب استنزاف تُذكّر بكل ما كرهه الأمريكيون في آسيا.

فوق هذا، لا يبدو أن الداخل الأمريكي مهيأ لحرب طويلة، خصوصًا مع تصاعد الكلفة الاقتصادية والاجتماعية، وانقسام المجتمع، واستعداد الأطراف المتضررة من الحرب الإيرانية – من الحوثيين إلى حزب الله إلى الحشد الشعبي – للرد بضربات لا تتوقف. إيران تمتلك قدرة عالية على القتال خارج حدودها، وعلى إدارة صراع متعدد الجبهات، بما يجعل الحرب، حتى لو بدأت بهجوم مركز، تتحول إلى شبكة مفتوحة من الردود المعقدة. هذا كله يجعل من الحرب مع إيران ليست فقط خاسرة بالمعنى العسكري، بل مدمّرة بالمعنى السياسي، لأنها ستفجّر الشرق الأوسط كله، وستجعل أمريكا تخسر لا إيران فقط، بل كل ما تبقى لها من نفوذ في المنطقة.


لماذا قد تذهب أمريكا إلى الحرب رغم أن مصالحها لا تبرر ذلك؟

بالحسابات الباردة، لا مصلحة مباشرة تجعل أمريكا تُخاطر بخوض حرب مفتوحة مع إيران. لا إيران تهدد الأراضي الأمريكية، ولا مصالحها النفطية مرهونة اليوم بإسقاط نظام طهران، ولا الرأي العام الأمريكي يطالب بالحرب. من هنا، فإن أي قرار بالتورط العسكري سيكون قرارًا غير منطقي من منظور السيادة الأمريكية، بل سيكون قرارًا مدفوعًا إما بالابتزاز أو بالتضليل أو بالاختراق. والفاعل المحتمل هنا واضح: إسرائيل.

فإسرائيل، كما أثبتت التجربة، قادرة على دفع أمريكا إلى مغامرات مدمّرة دون أن تتحمل كلفتها، وقد فعلت ذلك بوضوح في العراق، حين لعب نتنياهو نفسه دورًا محوريًا في ترويج كذبة أسلحة الدمار الشامل، ومهّد بغطرسة خطابية لغزو كارثي لم يحقق شيئًا سوى تدمير المنطقة وتمكين خصوم أمريكا. واليوم، يعود المشهد ذاته: نتنياهو يدفع، أمريكا تتردد، لكن اللوبي الصهيوني حاضر، ومراكز القرار مُخترقة، والسيناريو جاهز للتكرار، لأن إسرائيل لا ترى في إيران خصمًا سياسيًا، بل تهديدًا وجوديًا لمشروعها برمّته، ولذلك تريد أن تقاتل أمريكا نيابة عنها، حتى لو انتهى ذلك بسقوط أمريكا نفسها.


ترامب: الرجل الذي يُفترض أن يواجه هذا النفوذ… لكنه قد لا يفعل

نظريًا، يُعد دونالد ترامب الرئيس الأمريكي الأكثر قدرة على مقاومة الضغط الإسرائيلي. فهو ليس ابن المؤسسة التقليدية، ولا يعتمد على شبكات التمويل الليبرالية المخترقة من اللوبي الصهيوني، كما أن علاقته الفاترة مع نتنياهو تجعله، في الظاهر، أقل الرؤساء الأمريكيين قابلية للامتثال لابتزاز تل أبيب. يضاف إلى ذلك أن قاعدته اليمينية، المنضوية تحت شعار "اجعلوا أمريكا عظيمة مجددًا"، تميل إلى العزلة القومية، وترى في التدخلات الخارجية عبئًا على الأمة لا مجدًا لها، وهو ما يمنح ترامب غطاءً شعبيًا يمكنه من قول "لا" لإسرائيل دون أن يخسر شرعيته الجماهيرية أو صورته كمنقذ وطني.

لكن ترامب، وإن كان يمتلك هذه الأوراق، لا يُمكن اختزاله في ثبات المواقف أو في المنطق الاستراتيجي المجرد، لأنه – في العمق – رجل مشدود إلى مجده الشخصي أكثر من أي شيء آخر، نرجسي لا يكتفي بالنصر السياسي، بل يطلب المجد الرمزي، ويغريه الشعور بأنه يكتب اسمه في صفحات التاريخ لا كفاعل عادي بل ككائن مخلّص. ومن هنا، فإن قراراته قد لا تصدر عن توازن المصالح، بل عن لحظة نفسية متورمة بالرمزية، يُمكن أن يُعيد فيها تأويل نفسه بوصفه أداة قدر، أو "رجل العناية الإلهية" الذي اصطفاه التاريخ. هذه النزعة تحديدًا تعززت لديه بعد محاولة اغتياله الفاشلة إبان السباق الرئاسي، إذ بدا مقتنعًا، وربما لأول مرة بصدق داخلي، أن نجاته لم تكن مصادفة بل تدخلًا إلهيًا مباشرًا، إشارة من السماء، وعناية خفية وضعت عليه علامة، وجعلته يرى نفسه في مرآة "الاختيار"، لا مجرد رجل صعد في لحظة فراغ.

هذا الإحساس بالاصطفاء يجد ما يغذيه باستمرار من الرسائل التي تُضخ إليه علنًا وسرًا، ولعل من أشهرها مؤخرًا رسالة السفير الأمريكي في إسرائيل، التي تحدثت بلغة لاهوتية صريحة، مُصوّرة عودته المحتملة للرئاسة بوصفها خلاصًا للغرب وإعادةً للهيبة الربانية لأمريكا. مثل هذه الخطابات لا تمر عليه مرور الكرام، بل تضرب في عصب داخلي صار يتجاوب بوضوح مع هذا النوع من اللغة، حتى صار من المشروع السؤال: هل أصبح ترامب يؤمن حقًا بأنه رسول هذه اللحظة؟

إن ترامب، المعروف بفسقه العلني وبُعده السابق عن كل ما يوحي بالتدين، بدأ – على نحو لافت – في تبني مفردات ومظاهر دينية تُوائم نرجسيته، وتُعطيها الهالة التي تطلبها. فالدين هنا لا يُلزم ضميره، بل يُجسّد هالته. وإذا كان الإيمان بالنسبة للناس العاديين طريقًا للتواضع، فهو بالنسبة له طريق للتأليه الذاتي. لم يعد غريبًا أن يُهدد خصومه بـ"فتح أبواب الجحيم"، ولا أن تتحوّل بعض اجتماعات البيت الأبيض إلى صلوات جماعية، تتلو فيها مستشارته الإنجيلية مقاطع من الكتاب المقدس قبل بدء التوجيهات الأمنية. لم يعد ذلك مسرحًا انتخابيًا، بل صار – على ما يبدو – نمطًا تعبيريًا داخليًا يجد فيه ترامب، أو من حوله، طريقة لتأمين رمزيته، والتصالح مع صورته كمنقذ مقدّس.

ومن هنا، فإن الخطر الأكبر لا يأتي من إسرائيل وحدها، بل من تلك اللحظة التي يلتقي فيها شعوره بالاصطفاء مع لحظة تصعيد إقليمي، وتُعرض عليه الحرب لا كمخطط سياسي، بل كمهمة إلهية. حينها، لن يتخذ القرار بوصفه رئيسًا، بل بوصفه "المخلّص"، وعندها تحديدًا، ستمضي أمريكا إلى الحرب، لا لأن مصلحتها فيها، بل لأن ترامب صدّق أن نجاته كانت رسالة… وأن عليه أن يرد الجميل للرب بطريقته.

جيفري إبستين: القنبلة الصامتة التي قد تفسر كل شيء

في هذا السياق، لا يمكن إغفال ظل جيفري إبستين، الذي لا يزال يُخيم على المشهد السياسي الأمريكي، خصوصًا بعد تسريبات أشارت إلى وجود اسم ترامب ضمن ملفات إبستين المتعلقة بشبكة الابتزاز الجنسي. وإن صح هذا، فإن ترامب – رغم كل قوته الخطابية – قد يكون مقيّدًا بخيوط لا تظهر، لكنه يشعر بها جيدًا. المفارقة أن إيلون ماسك نفسه ألمح إلى وجود ترامب في تلك الملفات، ولم يرد عليه ترامب، في سلوك غير معتاد منه، إذ لم يُعرف عنه السكوت عمّن يتحداه. هذا الصمت لا يبدو بريئًا، وقد يكون مؤشرًا على أن الملف ليس مغلقًا كما يتظاهر، وأنّ هناك من يستطيع أن يُلوّح به في اللحظة المناسبة لدفع ترامب إلى اتخاذ قرارات تخدم من يعرفون عنه أكثر مما يجب.

بهذا، تصبح الحرب المحتملة على إيران ليست مسألة مصالح أو أمن قومي، بل لعبة نفوذ، وابتزاز، وخيوط ممتدة بين تل أبيب وواشنطن، بين طموح سياسي ونزعة إلى المجد، بين ملفات قديمة وقنابل مؤجلة. وإذا اندلعت، فلن تكون معركة ضد طهران فقط، بل ضد آخر ما تبقّى من استقلال القرار الأمريكي.