مقالات

ممداني.. وتفكيك الدولة العميقة

الكاتب/ة نيبال علي | تاريخ النشر:2025-11-09

إن ما يشهده المشهد السياسي الأمريكي من صعود غير مسبوق لجيل جديد من الساسة، وعلى رأسهم شخصيات ذات أصول هندية مسلمة مثل زهران ممداني (الذي يمثل صعوده الرمزي إلى منصب عمدة نيويورك، وفقاً لهذا التحليل، تتويجاً لحركة أوسع)، ليس مجرد تغيير في الأسماء، بل هو زلزال أيديولوجي يعيد تشكيل أولويات القوة في العاصمة المالية للعالم. إن هذه الولادة السياسية ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة مباشرة لتراكم الوعي الذي سرّعت من وتيرته الحقائق التي اتضحت في أعقاب "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023.
يمثل صعود ممداني، وخطابه الجريء، تحدياً مباشراً وصريحاً لأسس القوة القديمة المتجذرة. لم تكن "اعترافات" ممداني وتصريحاته مجرد مواقف سياسية عابرة، بل كانت إعلاناً لحرب طبقية وسياسية على المنظومة التي يمثلها الرئيس السابق دونالد ترامب، وشخصيات رأس المال العابر للحدود مثل إيلون ماسك، وسائر النخبة المليونيرية. يدرك هذا الجيل الجديد أن السياسة الاقتصادية والاجتماعية في أمريكا باتت رهينة لطبقة صغيرة من المستفيدين، ولهذا يرفع ممداني ورفاقه لواء العدالة الاجتماعية الشاملة التي لا تنفصل عن قضايا التحرر العالمية. إن هذا التحدي يعيد تعريف مفهوم الوطنية، ليصبح مرتبطاً بالوقوف في وجه الاستغلال الداخلي والخضوع الخارجي.
و يكمن المفتاح الحقيقي لفهم هذا التحول في الدور الذي لعبه "طوفان الأقصى". لم تكن تداعيات هذا الحدث مجرد قضية جيوسياسية خارجية، بل تحولت إلى محفز لصحوة داخلية غير مسبوقة. فبالنسبة للجيل الجديد من الساسة العرب الأمريكيين، من ممداني إلى غزالة هاشمي...  و هي اول  نائبة حاكم مسلمة في ولاية فرجينيا، التي ترفع الصوت عالياً، شكلت تلك المرحلة اختباراً حقيقياً للمبادئ. والأهم من ذلك، أن هذه الصحوة امتدت لتشمل قطاعات واسعة من اليهود الأمريكيين التقدميين الذين، ولأول مرة بهذا الزخم، وقفوا في وجه اللوبي الصهيوني التقليدي، رافضين ازدواجية المعايير ومانحين أصواتهم لمن يتفق معهم في مواقفه الإنسانية الشاملة على حساب الانتماءات الحزبية أو الطائفية الضيقة.
لقد كشفت الأحداث عن الروابط الوثيقة بين "الدولة العميقة" في واشنطن واللوبي الصهيوني، حيث اتضحت آليات تشويه المسار السياسي الأمريكي على مدى عقود، من خلال إرضاء مصالح خارجية والتركيز على أجندات تخدم قوى متجذرة في القرار.
ولو اخذنا تحليل الوضع الراهن من الاستقطاب السياسي الطبقي وثمن المواقف السياسة الخارجية ففي قلب الولايات المتحدة، يتسم المشهد السياسي الراهن بمستوى غير مسبوق من الاستقطاب الحاد، لكن هذا الاستقطاب لم يعد يدور حصراً حول قضايا الهوية التقليدية (يمين/يسار)، بل بدأ يتحول إلى محور جديد: النزاع بين المؤسسة الحاكمة (Establishment) والقاعدة الشعبية الرافضة (Anti-Establishment).
في ظل هذا المشهد، يتجلى موقف رجل الشارع الأمريكي البسيط تجاه السياسة الخارجية بما يلي:
1. الإرهاق من "الحروب الأبدية"
المواطن الأمريكي العادي، الذي يواجه تحديات اقتصادية داخلية متصاعدة مثل ارتفاع التضخم وتكلفة الرعاية الصحية، بات يرى في السياسة الخارجية القائمة على فرض الهيمنة والهمجية السياسية حول العالم عبئاً مالياً وإنسانياً هائلاً. هناك "إرهاق" شعبي عميق من تمويل "الحروب الأبدية" والتدخلات العسكرية المكلفة التي لا تعود بالنفع المباشر على حياته اليومية. هذا التعب يولد شكوكاً متزايدة حول حكمة إنفاق مليارات الدولارات لدعم الأنظمة العسكرية الخارجية بدلاً من توجيهها للبنية التحتية والخدمات المحلية.
2. الشعور بفقدان المصداقية العالمية
يتزايد الوعي بأن صورة أمريكا في الخارج تدهورت بشكل كبير. وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد بالإمكان عزل رجل الشارع عن النظرة الخارجية السلبية تجاه سياسات البيت الأبيض. يدرك المواطن تدريجياً أن السياسة الخارجية الأمريكية لا تُنظر إليها على أنها حاملة لقيم الديمقراطية والحرية، بل كأداة لتكريس مصالح الدولة العميقة دون الاهتمام بالنظام الدولي أو الحقوق الإنسانية في الدول الأخرى. هذه النظرة الخارجية، التي تصف السياسة الأمريكية بالغطرسة، بدأت تتسرب إلى الوعي الداخلي وتولد حالة من الحرج الوطني.
3. انكشاف الانصياع لرغبات "إسرائيل"
النقطة الأكثر حساسية ووضوحاً هي الانصياع شبه المطلق للبيت الأبيض والكونغرس لتلبية رغبات "إسرائيل". بالنسبة للمواطن العادي، خاصة بعد تصاعد الأحداث في غزة، بات هذا الانصياع يمثل خرقاً صريحاً لمبدأ "المصالح الأمريكية أولاً". كيف يمكن لدولة عظمى أن تضحي بسمعتها العالمية، وعلاقاتها التاريخية، ومليارات من أموال دافعي الضرائب، لتخدم أجندة دولة أجنبية؟
هذا الواقع كسر حاجز الصمت التقليدي حول اللوبي الصهيوني، وجعله موضوع نقاش علني على نطاق واسع بين الشباب وداخل الجامعات. لقد أسهم هذا الانكشاف في تغذية "الطوفان السياسي الجديد"، حيث أدرك الجيل الصاعد من الساسة والناخبين أن تعديل المسار السياسي في أمريكا لا يبدأ إلا بـ "تطهير" القرار السياسي من تأثير اللوبيات الخارجية التي تشوّه الأجندة الوطنية. وولادة "الطوفان السياسي الجديد"
إن فوز ممداني يمثل رمزاً لولادة "طوفان سياسي جديد" يعِد بوجه مشرق لأمريكا الحديثة. هذا الطوفان ليس موجة غضب عابرة، بل هو حركة تصحيح مسار تسعى إلى:
1. إعادة التوازن الأخلاقي: وضع المواقف الإنسانية ومبادئ العدالة العالمية قبل المصالح السياسية أو التبرعات الانتخابية.
2. فك الارتباط بالدولة العميقة: تحرير القرار السياسي الأمريكي من هيمنة اللوبيات المالية والعسكرية التي طالما وجهت السياسات الداخلية والخارجية.
3. تعددية المبادئ: بناء تحالفات سياسية جديدة تعتمد على تلاقي جميع الطوائف والأعراق حول قضايا مشتركة، بدلاً من الانقسام التقليدي.
إن هذا الجيل القادم من الساسة الأمريكيين، مدعوماً بالوعي المستجد لدى القاعدة الشعبية، يبشر بعهد لن تكون فيه الأصول العرقية أو الانتماءات الطائفية عائقاً أمام تولي أرفع المناصب، بل ستكون دليلاً على التنوع والقوة الأخلاقية، في محاولة لإعادة أمريكا إلى مسار سياسي أكثر إنصافاً وتوازناً على الساحة العالمية.