ها نحن في القرن السادس منذ أن مضى على نشر البحث عن أسباب خضوع البشر للحكام الطغاة، والحل للخلاص منهم ومن كل استبداد مهما كان شكله، برأي المؤلف إتيان دو لا بوسي في القرن السادس عشر.
في كتابه مقالة العبودية الطوعية أو المختارة، يضع المؤلف أصابعه على الداء والدواء، وهو كتاب يستحق الدراسة والتطبيق وقد يكون صالحاً في أي مكان يحل به الاستبداد.
دعونا نتعرف أولاُ على مؤلف الكتاب الثائر الخالد كصاحبه، من هو إتيان دو لا بوسي 1530-1563؟
ولد إتيان دو لا بوسي يوم الثلاثاء في الأول من نوفمبر عام 1530 في سارلات وهي بلدة تقع على نهر كوز غير بعيد عن بيرغو، التي كانت تنعم بالازدهار والأمان في عصر النهضة.
ينحدر لا بوسي من عائلة ميسورة ومثقفة، إذ كان والده ملحقاً بأمير بيرغو الإقطاعي يرتبة مقدم، و قد توفي مبكراً، فتولى تربيته أحد أعمامه، كان مولعاً بالثقافة القديمة الإغريقية والرومانية، كان طالباً لامعاً في جامعة أورليان حيث درس فيها الحقوق، وكان مبدعاً بمعرفته للأدب اللاتيني .
وقد كتب مقالته" العبودية المختارة" عام 1547 وكان حينها في الثامنة عشرة من العمر، وبعد أن حصل على شهادة الحقوق أصدر الملك هنري الثاني قراراً بتعيينه في البرلمان في سن الثالثة والعشرين، أي قبل بلوغ عامين من بلوغه السن القانونية لتولي هذا المنصب، و قد وقف ضد الحرب التي اندلعت بين الكاثوليك والبروتستانت، و كتب مذكرة تناول فيها المآسي الناجمة عن الصراعات الدينية موضحاً أن استخدام القوة لا ينهي المشكلة بل يزيدها تعقيداً.
لم تُنشر مقالة "العبودية المختارة" في حياة إتيان، بل بعد ما توفي عن عمر يناهز 33 سنة بعد ما أُصيب بمرض خطير يرجّح أنه مرض السل، وكان اول من نشرها هم البروتستانت الذين كانوا يعارضون الملكية المطلقة.
أحوال الأنظمة السياسية قد تتشابه في أي زمان في جوهرها وإن اختلف المكان والأشخاص، تبقَ مشكلة الاستبداد والطغاة وطاعة الشعوب لهم، مسألة معقدة مؤرقة تنبثق منها أهمية التفكير بحلول عملية لاقتلاعها من جذورها، لأنها مسألة تتعلق بحياة الإنسان وحرياته وكرامته.
لنصغي إلى هذا الصبي كما يقول مونتاني في " في فصل الصداقة":
إذ يقول" أن الطغاة كلما نهبوا ازدادوا طمعاً وعاثوا فساداً وتخريباً، وكلما أعطوا المزيد زادت خدمة الناس لهم، و ازدادوا منعة وقوة وإقداماً على الإبادة وتدمير كل شيء. فإن لم يعطهم الناس شيئاً ويكفوا عن طاعتهم فمن دون قتال وضرب يصبحون عُراة ومهزومين، ولا يعودون شيئاً مذكورا إلا كغصنٍ بات من دون ماءٍ يغذي جذعه فجف ومات.
إن الجسورين لا يهابون الخطر من أجل تحقيق مأربهم، ولا يتردد الأذكياء في تحمل المشقة، أما الجبناء والمتراخون فلا يعرفون الصبر على ما يضرهم والسعي لا كتساب ما ينفعهم ويكتفون بتمنيه، ويجردهم الجُبن من فضيلة المطالبة به، كما ان الرغبة في امتلاكه تبق لديهم بحكم الطبيعة، هاتان الرغبة والإرادة يشترك فيهما العقلاء والمجانين والشجعان والجبناء الذين يسعدهم الحصول على كل ما يشتهون، لكن ثمة شيء واحد لا أدري كيف حرمتهم الطبيعة من الرغبة فيه: ألا وهو الحرية، مع انها تنطوي على خير كثير ومتعة كبيرة، وإذا ما فُقدت تتوالى الشرور وتفقد المنافع التي تبق بعدها طعمها ونكهتها بعد أن تفسدها العبودية" إتيان دو لا بوسي في مقالته هذه منذ القرن 16 حتى هذا القرن 21 كأنما يصف حال أوطاننا وشعوبها التي أُبتليت بالطغاة، لا سيما على وجه الخصوص المملكة "السعودية" التي ينعدم فيها صوت الإنسان الحُر إذ نعاني من الملكية المطلقة التي بالضرورة سيلازمها الاستبداد والطغيان.
والطاعة العمياء للحاكم سواء بقوة الخوف من بطشه أو بفعل غياب الوعي الممنهج، إذ يرى الكاتب أن من وهب الطغاة القدرة على تدميرنا كشعوب هو نحن الشعوب!
"أنتم من وهبتموه القدرة على تدميركم، إذ من أين له بالعيون الكثيرة التي تراقبكم لولا أنكم أعطيتموه إياها؟ وكيف امتلك هذه الأيدي التي يضربكم بها لو لم يأخذها منكم؟ كيف تسنى له ان يستقوي عليكم لو لم تُمكنوه من ذلك؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه؟!
ماذا بوسعه أن يفعل لو لم تكونوا أنتم من يأوي اللص الذي يسرقكم...
صمموا على ألا تخدموا بعد الآن وسترون أنفسكم أحراراً، لا أريد منكم أن تدفعوه دفعاً، ولا أن تخلعوه خلعاً، بل كفوا عن مساعدته فقط ولسوف ترونه ينهار كتمثال ضخم أُزيحت قاعدته فهوى وتحطم" هذه ما يراه إتيان من فوائد العصيان ولكنه تدارك مشكلة استفحال مرض الطاعة الذي تجذر " ليس من الحكمة أن أعظ في هذا الشأن الشعب الذي فقد منذ زمن بعيد كل معرفة، ولأنه ما عاد يشعر بالألم فهذا دليل على أن مرضه مميت، فلنحاول إذاً، إن أمكن ذلك، أن نتبين كيف تجذرت عميقاً هذه الإرادة العنيدة في الإقبال على الخدمة، حتى ليبدو الآن أن حب الحرية نفسه لم يعد طبيعياً" ويتابع" السبب الأول لقبول الناس بالعبودية طواعية هو أنهم يولدون مستعبدين و ينشؤون على ذلك، وهذا سبب أخر وهو سهولة تحوّل الناس تحت وطأة الطغاة إلى جبناء" وأنا أرى منظومة الاستبداد تحتاج إلى تفكيك قبل كل شيء ابتداءً بالوعي الحقيقي البعيد عن التزييف، وكشف الحقيقة والصورة الداخلية للحاكم وحاشيته وكلها فيها تفاصيل وأبحاث وعمل جاد وصبر.
وفي الإعلاء من قيمة الحرية التي يستحيل بيعها يسرد لنا إيتان قصة معبرة في هذا الصدد أن ثمة رجل يدعى إندارن، كان قائد جيوش الملك في جميع مدن آسيا الواقعة على ساحل البحر، أحسن استقبال اثنان من الإسبرطين أحدهما يدعى سبرثيوس والآخر بولس، أثناء مرورهما بقصره، عندما كان يتجاذبان أطراف الحديث فسألهما لماذا يرفضان صداقة الملك إلى هذا الحد؟ وقال: "انظرا إليّ أيها الإسبارطيان تعرفا كم يكرم الملك أولئك الذين يخدمونه، واعلما أنكما إذا ما أصبحتما من أتباعه فسوف يفعل لكما من المكرمة ما فعله لي، فإذا دخلتما في طاعته وعرفكما فلن يعود أيٌ منكما إلا وقد أصبح أميراً على مدينة من مدن اليونان" فأجابه الإسبارطيان" أنت لم تحسن نصحنا في هذا الأمر، لأن النعمة التي تعدنا بها خبرتها أنت، لكنك لا تعرف النعمة التي نتمتع نحن بها، لقد حظيت بإنعام الملك عليك غير أنك لا تعرف شيئاً عن الحرية ولم تذق طعمها، ولو أنك ذقتها لنصحتنا بالدفاع عنها لا بالرمح والدرع فحسب بل بالأسنان والأظفار أيضاً" "مقالة العبودية الطوعية" هي كلمات ثائرة في وجه الطغاة وتحريض الشعوب على انتزاع الحرية المسلوبة لا بالعنف ولكن بالتوقف عن الطاعة والمضي في طريق العزة مهما كلف من ثمن، سيبقَ هذا الكتاب اليتيم خالداً و مرجعاً لأولي النُهى الذين يأبون إلا أن يكونوا أحراراً.
*إتيان دو لا بوسي "العبودية المختارة"