تبتلى مجتمعات الاستبداد بحكام ومسؤولين يصورن أنفسهم على أنهم هم الوطن، وتُنشر صورهم وتسوق أقوالهم ويحشرون أنفسهم في كل قضية، بوصفهم المنقذين وحامين حمى الوطن. فجل الدول المستبدة، تقزم الوطن في شخصية الرئيس، الملك، الزعيم، القائد، وغيرها من الألقاب المفخمة. وكأن الوطن هو مختصر في شخصية هذا الشخص.
فبنشاطه ينشط الوطن، وبطموحاته يعلى ويتقدم الوطن. وكأن الوطن لا يوجد به أحد إلا هذا الشخص، وكأن ملايين المواطنين العاملين في كافه القطاعات الحكومية والخاصة هم مجرد أرقام ليس لهم قيمة في الميزان. في مثل حالتنا في العربية السعودية، يُصير محمد بن سلمان أنه هو الوطن، لهذا هو يغضب عندما يتم تقديم أي نقد لأي سلوك حكومي أو اجتماعي، فهو لا يستطيع أن يفصل بين ذاته وبين الكيان الوطني. وهو يعتبر الوطن ملكية خاصة. فلا يحق لأحد كائن من كان أن ينتقد أي جانب من الجوانب الاجتماعية أو السياسية، أو الاقتصادية. فهو يعتبر هذا تجريحاً له، وتقليلاً من شأنه. أي أنه يقول بكل وضوح أن الانتماء للوطن يعني هو القبول التام بمحمد بن سلمان والتسليم بكافه أفعاله وأقواله وعدم تخطئته أو التشكك في صحة أفعال. أي أنه في حالة من التَأَلَّهَ، مما يجعله فوق النقد. وهذا نوع من جنون العظمة يصيب معظم المستبدين، فهو مرض نفسي يجعل الشخص يتصور أنه ذو إمكانيات خارقة، وذو نظره ثاقبة، وأنه حكيم وقائد فوق العادة. ولهذا نجد بعض اللقاءات الإعلامية لبعض المحسوبين على محمد بن سلمان ممن يعملون في دائرته، يقدمون صورة مبالغ فيها حول شخصيته، فمنهم من يقول أنه يقرأ الصفحات كأنه جهاز نسخ آلي ويفهم كل كلمه وردت فيها، ومنهم من يقول أنه يقدم نتيجة حتمية لدراسات الجدوى التي عملت عليها مراكز متخصصة في دقائق، حيث يستطيع أن يصل لخلاصة الدراسة. يا له من نبوغ عظيم!في الواقع، أن الطاغية، هو ذو إمكانيات متواضعة في كل شيء، فعلمياً هو فاشل دراسياً، وأخلاقياً هو فاسد ومجرم ومدان، وسياسياً هو فاشل حيث إن السياسة هي مدارس علمية تقوم على دراسة المصالح والتقاطعات والاستثمار العمل مع دول الجوار والدول الأخرى وفق مصالح الوطن لا المصالح الخاصة. الطاغية لا يملك أي امتياز يجعله في مقدمة الصفوف، فهو بمحض الصدفة وصل لهذا المكان لأن أباه هو الملك، فهو لم يكن بهذا المكان لأنه ذكي أو مميز، بل لأن أباه أصبح الملك فقط لا غير.الوطن هو المكان الذي تشعر فيه بالأمان والحرية، وهو المكان الذي تشعر أنك تنتمي له وتحبه وتغار عليه. يرحل كل الطغاة وكل السياسيين ويبقى الوطن. فنحن في الواقع وجدنا صدفة في هذا المكان، لم يكن لأي شخص خيار في تحديد هويته الوطنية منذ الأساس، لكن مع الوقت تتغير بوصلة بعض الأشخاص بفعل الدعاية السياسية فيخلط بين الوطن الكبير المكون من المزيج الثقافي والاجتماعي والعادات والتقاليد والحياة اليومية والبهجة والحزن والسعادة والفرح والأهل والأقارب وكافه من يشتركون معك في الوقوف على ترابه وبين هذا الشخص الذي يصر بكل إحتقار أنه هو الوطن. عفوا، الوطن أسمى من أن يكون مقاما على شخص واحد .
الوطن هو الجميع، والجميع هم الوطن. لهذا نشعر بالألم عندما يسجن شخص، ونحزن عندما يظلم آخر، ونفرح بتحقيق العدالة لشخص ثالث. كل هؤلاء المواطنين هم من يشكلون إحساسنا بهموم الوطن، فالفقير والمحتاج الذي يظهر في شبكات التواصل الاجتماعي يطلب العون، يخرق صوته صدورنا ونتألم لحاله ويتمنى المشاهد والمتابع أن يستطيع تقديم شيء. وعلى العكس، فنحن نغضب لتجاوزات بعض رجال الأمن في حق المظلومين والمقهورين ونشعر بحالة الخذلان والانكسار أمام بطش السلطة. لهذا يكون الانتماء فطرياً هو للوطن لا للحاكم، فهذا الحاكم هو مجرم ولص وقاتل ولا يفكر إلا في مصالحة الضيقة، في تعزيز تشبثه بالسلطة وتكديس الثروات. ولو كان لدى الحاكم الطاغية كرامة لما عرض مصالح الوطن وسمعته للتشويه عبر ارتكاب الحماقات وشن الحروب وتعزيز الفساد. لهذا الانتماء للوطن ككل وليس لحاكم هو في الأصل موظف مؤتمن على مصالح الجميع. في الدول الديمقراطية، تكون المسألة واضحة، فالحاكم يرشح نفسه، ويحاسبه الشعب أول بأول، وهناك يوم محدد تنتهي فترته ثم يرحل، فتبقى سمعته الصالحة أو الطالحة. ويبقى الوطن فوق الجميع، ويدين الجميع بالولاء للوطن للحكام. في الدول المستبدة، يحرص الطاغية على تصوير أنه هو الوطن. لكن بحق هو عشم إبليس بالجنة، فالفكرة لا يمكن أن يتم حتى تصورها فضلاً عن تطبيقها. لكن هي من باب الدعاية السياسية للتغطية على فشله. لهذا الانتماء فطرياً يكون للوطن بكافة أطيافه وألوانه وترابه وهوائه. وطني الحبيب وهل أحب سواه!!
روحي وما مـلـكـــــت يداي فـــداهُ وطني الحبيب وهل احب سواهُ
وطني الذي قد عشت تحت سمائهِ وهو الذي قد عشت فوق ثراهُ