من «الاستعمار الكلاسيكي» إلى «المستعمِر الوطني»
"غُزاةٌ لا أُشاهِدُهُم
وسيفُ الغزوِ في صدري
غُزاةُ اليومِ كالطّاعونِ
يُخفي وهو يَستشري"
البردوني
في السادس من ديسمبر 2023، وسط مراسم الاستقبال في قصر اليمامة، انزلقت من فم المترجم عبارةٌ روسية عن «اعتراف الاتحاد السوفيتي باستقلال المملكة». قطع محمد بن سلمان الترجمة فورًا: «السعودية أُعيد توحيدها... ولم تكن مستعمَرة من قبل». لحظةٌ عابرة في بروتوكول دبلوماسي، لكنها تفتح الباب على سؤالٍ أعمق: ما الذي نُسمّيه استعمارًا حين لا تطأ الأرضَ بساطيرُ جندٍ أجنبي، ولا تُرفع رايةٌ غريبةٌ فوق القصر؟
التصحيح اللغوي كان في الحقيقة إزاحةً مفاهيمية: الاستعمار المعاصر خلع البدلة العسكرية وارتدى الزيّ الوطني، هجر الثكنات واستوطن غرفة المحرّكات. لم يعد يحتاج إلى مفوّضٍ سامٍ يحكم من الخارج؛ صار يُصنِّع وكلاءَ محليين يحكمون من الداخل بمنطق الخارج. من هنا تتحوّل المسألة من جدلٍ لفظي إلى مصفوفة قياسٍ إجرائية: من يحتكر تعريف العدو؟ من يملك الفيتو الناعم على القرار السيادي؟ من يُمسك بمفاتيح القوة الصلبة؟ من يرسم سقوف الخطاب العام؟
حين هنّأ بوتين نظيره بـ«الاستقلال»، كان يستدعي نموذجًا من الأرشيف: جيوشٌ تجتاز الحدود، احتلالٌ مباشر، ثم جلاءٌ احتفالي. ذاك الاستعمار الكلاسيكي—الصريح في عنفه، المكشوف في هويته—انقرض مع آخر الإمبراطوريات التقليدية. ما ابتكره القرن العشرون كان أكثر تطوّرًا: استعمارٌ بلا جنود، يحكم بالدَّين لا بالحديد، يُبرمج العقول لا يحتلّ الأراضي. اكتشفت الإمبراطورية أن السيطرة على بنية القرار أنجع من السيطرة على الجغرافيا.
الانتقال من «الغزو من الخارج» إلى «الغزو من الداخل» ليس تبديل أدوات فحسب؛ إنه قلبٌ جذري لمعنى السيادة. النموذج القديم مُكلف: يستنزف الإمبراطورية مالًا وجنودًا وشرعية. النموذج الجديد يُحوِّل المُستعمَر إلى شريكٍ وظيفي في إدامة تبعيته، يقمع المعارضة باسم الاستقرار الوطني، ويضمن تدفُّق الموارد تحت راية السيادة. السؤال المحوري إذن: من يملك المفتاح الخفي لغرفة القرار؟
في هذا النموذج، تنشطر الدولة إلى طبقتين: «واجهة» تُمارس طقوس السيادة—علمٌ ونشيدٌ واحتفالاتٌ وطنية—و«غرفة محرّكات» حيث يُصاغ القرار وفق معادلاتٍ غير مكتوبة. الواجهة تُردِّد شعارات الاستقلال فيما المحرّكات مُكبَّلة بشبكة معقّدة: معاهدات «حماية» تُحدِّد العدو سلفًا، أسلحةٌ متطورة مشلولة بدون الصيانة الخارجية، سياسةٌ نقدية مُصادَرة عبر ربط العملة، نُخبٌ تكوّنت في مختبرات الإمبراطورية وعادت تحكم بعقل المُستعمِر.
ولهذا سنستعمل هنا مصطلح «» للدلالة على جهازٍ محليٍّ يؤدّي وظيفة السيطرة الاستعمارية من داخل الدولة ذاتها. هذا الجهاز محكومٌ ببنية وجوده أن يظل عاجزًا عن التحديث الحقيقي—ذلك التحديث الذي يحرر لا يُكبّل، الذي يؤسس لا يُزخرف. فهو كائنٌ معلّق وجوده على شرط استحالة تحققه الكامل: كلما اقترب من نقل المفاتيح الحرجة إلى الداخل، اقترب من نهايته كوكيل. لذا يمارس ما يمكن تسميته «تحديث الإخصاء»: تحديثٌ مبهرٌ في المظهر، عقيمٌ في الجوهر؛ يستورد ناطحات السحاب لكن لا يستورد المعرفة الهندسية العميقة، يشتري المفاعلات بعقود «تسليم مفتاح» لا نقل معرفة، يبني مدنًا ذكية لكن الذكاء الحقيقي—الخوارزميات، البيانات الحساسة، البنية الرقمية العميقة—يبقى في يدٍ أخرى. كالبغل: قويٌ في العمل، عاجزٌ عن التناسل، لا يُنتج استقلالاً.
هنا يتجسّد «المستعمِر الوطني» الذي رصده البردوني بعين الشاعر النبي—ذاك الذي يتسلّل "في سجائر لونُها يُغري، وفي سروال أستاذٍ، وتحت عمامة المُقري". لم يعد الاستعمار يحتاج البدلة العسكرية؛ صار يتقنّع في بدلة التكنوقراطي الذي يُدير الاقتصاد بعيون صندوق النقد، في عمامة الفقيه الذي يُشرعِن الخضوع كطاعةٍ دينية، في قلم المثقف الذي يُعيد تعريف «الواقعية» لتصير مرادفًا للاستسلام المُتأنِّق. والأخطر: تحوّل الاستعمار من حدثٍ مرئي إلى «طبيعة الأشياء»—حين يصير التكنوقراطي المُبرمَج «الخبير الوطني»، والفقيه المُدجَّن «صوت الشرع»، والمثقف المُستأنس «العقل الواقعي»، يكتمل الاستعمار: لم يعد يُرى كاستعمار، بل كـ«حكمة» و«اعتدال» و«تقدم».
الاختراق شامل: الدفاع يضع استراتيجياته تحت سقف «التنسيق»، المالية تُفكِّر بمنطق وكالات التصنيف، التعليم يُنتج أجيالًا مُبرمَجة على تعريفاتٍ مستوردة للتقدُّم، والإعلام يخوض معاركه بأسلحةٍ مُستعارة وخطوطٍ حمراء أشدّ إلزامًا من أي رقابة مكتوبة.
الاستعمار الجديد لا يحتلّ الأرض بل يستعمر البنية، لا يغزو الجغرافيا بل يُعيد تشكيل الوعي، لا يفرض لغته بل يجعلك تُفكِّر بمنطقه حتى وأنت تنطق بلسانك. إنه الطاعون الذي رآه البردوني: يستشري وهو يختفي، يَقتل وهو يُداوي، يُكبِّل وهو يُحرِّر.
معيار الاستعمار: التعريف الإجرائي ومصفوفة القياس
"ويستخفُونَ في جِلدي
وينسلُّونَ من شَعري
وفوقَ وجوههِم وجهي
وتحتَ خيولِهِم ظهري"
الاستعمار ليس الصورة المتحفية المتحجّرة—جيوشٌ تقتحم البوابات وأعلامٌ تُنكَّس في الساحات—بل انقلابٌ صامتٌ في معادلة السيادة، حيث ينتفخ الخارج داخل غرفة القرار حتى يصير هو العقل المُدبِّر للجسد الوطني. ما نصوغه هنا ليس تعريفًا يطلب البراءة الميتافيزيقية من كل تشابك، بل مِجَسٌّ يفضح مركز الثقل الحقيقي للقرار حين تحتدم اللحظة وتسقط الأقنعة.
التعريف الإجرائي المُكثَّف: «الاستعمار هو انتفاخ إرادةٍ خارجيةٍ داخل بنية القرار حتى تصير هي السيّد الفعلي، يُقاس بأربع عتبات: من يحتكر تعريف العدو والصديق؟ من يُمارس الفيتو غير المكتوب؟ من يملك مفاتيح القوة الصلبة؟ من يرسم سقوف الكلام المباح؟»
احتكار تعريف العدو: اختطاف لحظة التأسيس
تعريف العدو ليس قرارًا إداريًا يُلحَق بالسياسة؛ إنه اللحظة الصفرية التي تنبثق منها السياسة كلها. حين تُستورَد خارطة التهديدات معلّبةً—بمفرداتها وتراتبيتها وخطوطها الحمراء—يتحوّل الأمن المحلي إلى فرعٍ تنفيذي لاستراتيجية صيغت في عواصم أخرى. الفارق حاسم: التوافق العابر مع حليفٍ ليس خيانة، لكن حين يتحجّر التوافق كقيدٍ بنيوي يجعل الانحراف كارثةً وجودية، نكون أمام اختطافٍ للحظة الولادة السياسية.
الفيتو الناعم: هندسة الإذعان
انقضى عصر البرقيات الآمرة؛ الهيمنة اليوم تعمل بالإيحاء لا بالإملاء. تُنسَج شبكات التبعية بخيوطٍ من ذهب: قروضٌ لا تُسدَّد، أسلحةٌ لا تعمل إلا بإذن، حمايةٌ مشروطة بالطاعة. يُعاد تصميم الخيارات حتى يبدو المسار المرغوب خارجيًا هو الوحيد «الممكن»، فتصير الواقعية مرادفًا للاستسلام، والحكمة اسمًا آخر للجُبن المُبرَّر. التشاور ضرورة، لكنه ينقلب وكالةً حين تُهندَس المؤسسات بحيث يستحيل تصوُّر حياةٍ خارج القفص.
مفاتيح القوة الصلبة: السلاح المخصيّ
هنا ينتقل الاختبار من الورق إلى المعدن. جيشٌ يحمل بنادق لا يعرف شفراتها، يتوقّف إذا توقّفت قطع الغيار، يُقاتل بعقيدةٍ كُتبت لحماية البائع لا المُشتري—هذا متحفٌ عسكري لا قوة ردع. التبعية التقنية قَدَرٌ عالمي، لكنها تصير استعمارًا حين تُغلَق البدائل قصدًا، حين يصير التحديث رهينة ابتزازٍ سياسي، حين تبقى أزرار الحياة والموت في أيدٍ بعيدة.
هندسة السقوف الخطابية: احتلال اللسان
السيادة ليست قوةً تُمارَس فحسب، بل خطابٌ يُنتَج. حين تتحوّل «المهنية» إلى شفرةٍ للامتثال، و«الموضوعية» إلى قناعٍ للانحياز المُبرمَج، نواجه استعمارًا يحتلّ الألسنة قبل الأراضي. غرف الأخبار تصير مكاتب ترجمة، والمثقفون سُعاة بريدٍ للرواية المهيمنة. المفارقة القاتلة: القمع يتمّ باسم الحرية، والرقابة تُمارَس باسم المهنية.
هذه المصفوفة ليست محكمةً أخلاقية تُصدر أحكامًا نهائية؛ إنها أداة تشريحٍ تكشف حقيقة القرار في ساعة الحساب. الاستقلال الفعلي يُمتحَن في القدرة على كسر الخط الأحمر دون الانكسار، في جسارة تسمية عدوٍّ يُجمِع العالم على تبرئته، في صناعة روايةٍ تشقّ جدار الإجماع المُصطنَع.
المعادلة الختامية: تكون مستقلاً حين تُسمّي عدوّك بلغتك لا بمعجمٍ مُترجَم، حين تكسر الفيتو الخفي دون أن ينهار سقفك، حين تملك مفاتيح سلاحك من الطلقة إلى البرمجة، حين تصنع كلامك دون رقيبٍ يجلس في الظل. ما دون ذلك تنويعاتٌ على لحنٍ واحد: وكالةٌ تلبس الثوب الوطني وترقص على إيقاعٍ أجنبي.
وأضيف هنا القاعدة التشغيلية التي تُغلق باب الالتباس وتحوّل «المصفوفة» إلى مِجسّ ملموس: يُعدّ كل «تحديث» واقعًا تحت سقف الاستعمار ما دام لا يمسّ عتباتنا الأربع—احتكار تعريف العدو، الفيتو الناعم، مفاتيح القوّة الصلبة، هندسة السقوف الخطابية—وبخاصّة مفاتيح المعدن وتعريف العدو؛ أمّا التحديث الذي ينقل واحدةً فأكثر من هذه المفاتيح إلى الداخل انتقالًا لا رجعة فيه فهو، بحكم المآل، كسرٌ للهيمنة لا تحسينٌ لها. بهذه القاعدة يُفحَص كل ادّعاء تحديث: إن بقي زرّ الإقلاع في الجيب الآخر، فنحن أمام تجميلٍ للواجهة؛ وإن انتقل المفتاح إلى الداخل، فقد بدأ فعلُ السيادة.
عبدالعزيز بن سعود — تأسيس «المستعمِر الوطني»
"ومِنْ مُستعمرٍ غازٍ
إلى مُستعمرٍ وطَني"
منذ اللحظة التي تحوّل فيها مشروع عبدالعزيز من طموحٍ محلّي إلى مشروع دولة، تكوّنت النِّسبة الحاكمة بين الداخل والخارج على نحوٍ يجعل «الواجهة» محليةً صافيةً في الرموز والشعائر، بينما تُصاغ قرارات غرفة المحرّكات وفق اشتراطات حمايةٍ أعلى. اتفاق دارين لم يكن حادثةَ تمويلٍ عابرة ولا لفتةَ اعترافٍ مجاملة؛ كان عقدَ إدراجٍ تأسيسيًّا رتّب الاعتراف والسيولة والسلاح والحماية على جهةٍ، وربط القرار الخارجي والتمدّد والامتناع عن التعاقُد مع قوى أخرى على الجهة المقابلة. منذ تلكاللحظة صار معنى «الممكن السياسي» تابعًا لسقفٍ يُفتح ويُغلق من خارج الواجهة: تُمدّ الإعانة فيشتدُّ العصب، يُقيَّد التسليح فتُعاد صياغة الهدف، وتُحاط خرائط الحركة بأحزمةٍ لا تظهر في الخطب لكنّها تحدّد نهاية كل طريق.
ثم جاء العقير فحوّل الجغرافيا نفسها إلى برهانٍ على هذه النِّسبة. لم تُرسم الحدود بوصفها نزاعًا بين جارين يُحكّمان وسيطًا محايدًا، بل بوصفها ملفًا سياديًا يُدار «من فوق» ويُوقّع «من تحت». بحدّ القلم الأخضر أُعيد توزيع مساحات الحركة، أنشئت مناطق محايدة، سُوّيت مطالب، وتقرّر شكل الكيان قبل أن يستقرّ هذا الكيان على نفسه. بهذا الفعل انتقل تعريف «العدو/الجار/المجال» من كونه ثمرة توازنات محلية إلى كونه قطعًا من معجم الضمانات العليا. لم تكن الواجهة غائبةً عن الطاولة، لكنها لم تكن صاحبة اليد الأخيرة؛ كانت طرفًا يُحسن التفاوض داخل سقفٍ مرسوم.
على الأرض، لم يكن الحسم في طور التكوين نتاجَ فائض فضيلةٍ خطابية، بل نتيجةً مباشرةً لاقتران التعبئة الاجتماعية–العقدية بالمُسرِّع التقني: بنادق أسرع، ذخيرةٌ منتظمة، نُظُم ضبطٍ في القيادة والسيطرة، ومدى نيرانٍ يسبق خصمَه بمسافتين. ما حدث في السبلة لم يكن «نهاية خوارج» ولا «انتقام ملكٍ من جندٍ عصوه» في المستوى البنيوي؛ كان انتقالًا من ماكينة تعبئةٍ تملك الشجاعة ولا تملك الحديد إلى ماكينة دولةٍ تملك مفاتيح المعدن وتدير المعركة على جدولٍ زمنيّ لا يرحم. منذ تلك اللحظة وُلد جيش الدولة لا باعتباره جيشًا «أشدّ إيمانًا»، بل باعتباره جيشًا «أكثر اتصالًا بسلاسل الإمداد»، وأُغلِق ملف الجيش العقائدي لأن الدولة الحديثة لا تسمح بقيادةٍ مسلّحةٍ خارج غرفة المحرّكات المركزية.
هذا الترتيب التقني لم يأتِ وحيدًا؛ جاء معه ما يُسمّى اليوم بـ«الفيتو الناعم». لم تعد الإملاءات على هيئة رسائل صريحة، بل على هيئة بنية خيارات: صفقاتٌ تُوقَّع بإطار استخدامٍ يرسم عقيدة السلاح كما يرسم جدولة صيانته، إعاناتٌ مالية تُقاس عليها سعة الخطوة التالية، وساطةٌ سياسية تُعرِّف «ما يجوز فتحه الآن وما يؤجَّل». هكذا يصبح «التشاور» عادة، و«التأجيل» سياسة، و«الاستباق إلى التعديل» دليل حنكة، بينما الحقيقة البسيطة أنّ كلفة الانحراف عن السقف صارت أكبر من قدرة النظام الناشئ على الاحتمال. هذه ليست حيلة أخلاقية؛ إنّها ماكينة ضبط تُعيد ترتيب البدائل بحيث يبدو المسار المرغوب خارجيًا هو المسار الوحيد الممكن عمليًا.
أعيد بعد ذلك تثبيت النِّسبة في النصوص التي استبدلت دارين بجدّة، ثم في شبكة الاصطفاف الأوسع التي تحوّلت لاحقًا من مظلّةٍ بريطانية إلى مظلّةٍ أميركية من دون أن يتغيّر جوهر المعادلة: أمنٌ مقابل اصطفاف، نفطٌ مقابل ضمان، شرعيةٌ داخلية تُدار برَيع السكون مقابل مفاتيح قوةٍ صلبةٍ تبقى حسّاسةً خارج اليد. هنا تتسرّب الدائرة الثالثة من مصفوفة القياس: الريع بوصفه تقنية حكم. فبدل أن يُستثمَر فائض المورد المركزي في تحرير القرار عبر بناء قدرةٍ إنتاجيةٍ مستقلة، يُعاد تدويره لإطفاء الحرائق الاجتماعية ولشراء سكونٍ طويل النفس، فتخرج أجهزة توزيعٍ إداريةٌ وبنكيةٌ وبرامج رفاهٍ تُحسن صيانة الاستقرار أكثر مما تُحسن تكوين الاستقلال. ومع الزمن تتكوّن طبقة مصالحٍ داخل الدولة يهمّها بقاء الصيغة أكثر مما يهمّها تبديل النِّسبة، لأنها تعيش من تلك الصيغة وتدافع عنها بوصفها «حكمة الدولة».
وبينما تُضيء الواجهة على إنجازات الإدارة الحديثة، كانت غرفة المحرّكات تعلّم نفسها درسًا ثانيًا: «المهنية» كجهاز سقف. تُكتب القصة الرسمية بعناية، يُحذَف منها ما يمسّ المفاتيح، وتُستعاض عن السؤال السيادي (من يعرّف العدو؟ أين الفيتو؟ أين المفاتيح؟) بسؤال «الأداء» (كم طريقًا شُقّ، كم مدرسةً فُتحت، كم مؤشرًا تحسّن). لا عيب في تحسين الأداء؛ العيب حين يصبح الأداء ستارًا يحجب البنية. عندها يُعاد تعريف «الواقعية» لتصير مرادفًا للامتثال الذكي، ويُعاد تعريف «التهوّر» ليصير اسمًا لكل محاولةٍ لطرق سقفٍ غير مرئي.
بهذه العناصر مجتمعةً يتّضح لماذا نقول إن الدولة التي أسّسها عبدالعزيز تمثّل النموذج المؤسِّس لـ«المستعمِر الوطني»: لأن شرط الاعتراف والحماية والتسليح المنتظم وضع مبكّرًا اليد الخارجية على عتبتين من أربع في مصفوفة القياس (تعريف العدوّ في المحيط الإقليمي، ومفاتيح المعدن والصيانة)، ولأن رسم الجغرافيا حدّد مسبقًا مجالات الحركة والحظر، ولأن الحسم التقني أنشأ جيش الدولة بوصفه آلة انضباطٍ تعمل ضمن سلاسل إسنادٍ لا يملكها الداخل كاملًا، ولأن الريع والسرد المهني صاغا مع الوقت غلافًا اجتماعيًا–خطابيًا يَظهر معه السقف كأنه طبيعة الأشياء لا ترتيباتها.
صعودُ عبدالعزيز لم يكن ثمرةَ «مهارةٍ سياسيةٍ» محايدة ولا «دهاءٍ» يُحمد لذاته، بل كان ممارسةً صريحةً للمكر بوصفه منهجَ اقتناصٍ للغلبة: إخفاء النيّة خلف خطابٍ دَعَويٍّ تعبوي، والمقايضة بالخارج على الداخل حين تدعو الحاجة، واستعمال الدين أداةَ تعبئةٍ ثم كبحُه ساعةَ يهدِّد مركز القرار، وتبديلُ الوعود بحسب مقتضى اللحظة، وتفكيكُ الخصوم عبر رشا الريع وشراء السكون وتغذية العداوات البينية ثم الحسم عليهم بالآلة الحديثة حين يكتمل ميزان القوة. بهذا المعنى لم يكن تفوّقه نتاجَ فضائل شخصيةٍ أرفع من خصومه، بل نتيجةَ منظومةٍ أخلاقيةٍ أدنى من معيار الخصومة الفارسية التي واجهته؛ معيارٌ يجوِّز الغدرَ المحسوب، ويُقدِّم سلامةَ المُلك على صدق العهد، ويُلبِس المقايضةَ ثوبَ الشرع ساعةً ويخلعه ساعةً أخرى، ما دام ذلك يفتح الطريق إلى القبضة المركزية.
ولذلك لا نقول إنّ لحظة التأسيس أفرزت «وكالةً» عرَضًا تحت ضغط الظروف، بل نقول إنّ «المستعمِر الوطني» صيغ قصدًا كاختيارٍ أخلاقي–سياسي أدنى: جهازٌ يجمّلُ وجهه بالواجهة المحليّة فيما يسلّم مفاتيح القرار للضامن الخارجي متى احتاج، ويُخضع الداخلَ لترتيباته بما يضمن دوام القبضة لا صلاح العقد. من هنا تتحدد خلاصة هذا القسم: الدولة التي أقامها عبدالعزيز قامت على مكرٍ مُنظَّمٍ يقدّم المصلحة السلطوية على معيار الوفاء والمروءة، ويستثمر الخارج على حساب الداخل، ويصنع من الريع والسرد أدواتِ تطبيعٍ مع سقفٍ مفروض؛ وسنرى في القسم التالي كيف لم تتبدّل هذه النِّسبة في الجوهر، بل جرى تحديث أدواتها وتنعيم لغتها مع بقاء المبدأ واحدًا.
محمد بن سلمان — تحديث جهاز «المستعمِر الوطني» وتنعيم لغته
"تَرَقى العارُ من بيعٍ
إلى بيعٍ بلا ثمنِ
وفي عَودِ احتلال الأمـ
ـسِ في تشكيلِةِ العَصري"
منذ اللحظة الأولى التي تقدّم فيها وليّ العهد إلى واجهة الحكم، أعاد ترتيب المسرح بحيث يغدو وجه الدولة أكثر صخبًا، فيما تبقى غرفة المحرّكات على النِّسبة ذاتها التي انبنت في التأسيس، لكن بأدواتٍ أحدث وسرعة دورانٍ أعلى وبلاغةٍ إداريةٍ مُحكمة تُحوّل السقف إلى «برنامج» والقيد إلى «خارطة طريق». اندفع الجهاز إلى تعميم منطق «الممكن الوحيد» بوصفه حكمة الدولة، وأُعيد تعريف الجرأة لا باعتبارها كسرًا لمفاتيح الهيمنة، بل توسيعًا للضجيج والحركة ضمن سقفٍ محروس.
أُنشئ اقتصادٌ لغويّ جديد يصوغ الأزمة كـ«تحوّل» والتخبط كـ«حوكمة» والمضاربات كـ«قطاعات المستقبل». مشاريع عملاقة تستنزف الخزينة، صندوق سيادي يقامر بثروات الأجيال، موجاتٌ محمومة من المضاربة العقارية والوعود الترفيهية. يُدوَّر الريع في دوامات استهلاكية تعمّق التبعية: كل مشروع "ضخم" يضاعف الحاجة إلى الخبرة الخارجية، كل "مدينة ذكية" تربط مصيرها بشبكات تحكّم أجنبية، كل "رؤية" تزيد الاعتماد على رخص الاستخدام ومفاتيح التشغيل الخارجية. النتيجة: مؤسسةٌ أكثر هشاشة، أشدُّ احتياجًا إلى موافقات المورد، أعمق غرقًا في شبكة التبعية التقنية والمالية.
في التعريف العملي للعدو، تبدو الحركة صاخبةً لكنها فارغة: مناورات تكتيكية هنا، إيماءات مدروسة هناك، لكن عند لحظة الحقيقة - حين يتقاطع «الممكن» مع «المأذون» - ينكشف الوهم. الخطوط الحمراء تبقى مرسومةً بيدٍ خارجية، و"التنويع" يتبخر عند أول اختبار حقيقي.
رؤيةُ «التوطين» سرابٌ يلمع: مصانع تجميع لا تصنيع، عقود استيراد مُقنّعة كـ"نقل تقنية"، شراكات تدريب على التشغيل لا على الابتكار. المكوّنات الحرجة - برمجيات القيادة والسيطرة، رخص الاستعمال، أكواد الصيانة - كلها تبقى محتكرة خارجياً. جيشٌ يحمل معدات لا يفهم جوهرها، يشغّل منصات لا يملك مفاتيحها.
«الفيتو الناعم» صار أشد إحكامًا رغم تنكّره: ديون متراكمة، تصنيفات ائتمانية كسيف مسلط، شبكات امتثال قانونية تخنق أي محاولة استقلال. البنوك تترنح تحت وطأة القروض المتعثرة، سوق الأسهم ينهار، التعليم يتداعى، والخطاب الرسمي يحتفل بـ"الإنجازات".
السرد الرسمي آلة ضخمة لصناعة الوهم: يُحوّل الفشل إلى "تحدٍّ"، والانهيار إلى "إعادة هيكلة"، والتبعية إلى "شراكة استراتيجية". النقاش العام يُحوّل من «من يملك القرار؟» إلى «كيف نلمّع الفشل؟»، من «لماذا ننهار؟» إلى «كيف نحتفل بالانهيار؟».
ليس في هذا التصوير مبالغة بل كشفٌ للواقع المُقنّع: البنية التحتية المزعومة واجهاتٌ بلا عمق، الخدمات المُحدّثة قشورٌ بلا لُب، والفضاء الثقافي سيركٌ يُلهي عن الانهيار. السيادة تُقاس بموقع القرار ساعة الاصطدام، والنتيجة واضحة: «المستعمِر الوطني» أجرى ترقيةً شاملة للضجيج والصخب، بينما يغرق أعمق في وحل التبعية، والمفاتيح تزداد بُعدًا، والانهيار يتسارع تحت زخرفة "الرؤى" و"التحولات".
تتشابك مع هذا كله دائرةُ الإدارة والمعايير التي تحولت إلى آلة تمويه متقنة: منظومات قياسٍ تقيس كل شيء إلا الحقيقة، مؤشرات أداء تُخفي الانهيار خلف أرقام مُزوّرة أو منتقاة. يُعاد تعريف النجاح ليصير عدد المؤتمرات المنعقدة لا نتائجها، حجم الإعلانات لا مضمونها، ارتفاع المباني لا متانة أساساتها. KPI يتحول إلى قاموس تضليل: البطالة المتفاقمة تصير "إعادة هيكلة سوق العمل"، هروب رؤوس الأموال يُسمى "تنويع الاستثمار"، انهيار القطاعات الإنتاجية يُغطى بضجيج "القطاعات الواعدة".
الجغرافيا-الأمن تعمق الخنق: ممراتُ عبورٍ تُدار بمنصاتٍ أجنبية، مجالاتٌ جويةٌ مخترقة، لوجستياتٌ معقّدة كلها مربوطة بأنظمة تحكم خارجية. ترتيباتُ "الحماية" تكشف حقيقتها كاحتلال ناعم: قواعد عسكرية تحت مسميات مدنية، أنظمة إنذار مبكر تراقب الداخل أكثر من الخارج، شبكات معلومات تُسرّب أكثر مما تحمي. القرار في ساعات التوتر ليس مرهونًا بالإرادة المحلية بل بموافقة الشبكات الخارجية، والحركة السيادية مستحيلة عملياً.
والأدهى: تفاقم الأزمات الداخلية تحت قشرة "التحديث". القطاع المصرفي على حافة الانهيار بديون تجاوزت الودائع، التعليم ينهار تحت وطأة المناهج المستوردة والكوادر غير المؤهلة، الصحة تتداعى رغم المباني الفارهة الفارغة من الكفاءات. البنية الاجتماعية تتفكك: الطبقة الوسطى تُسحق، الفقراء يزدادون فقراً، والأثرياء المرتبطون بالنظام يراكمون ثروات طفيلية لا إنتاجية.
الريع الذي كان يشتري السكون لم يعد كافياً. التحول إلى الضرائب والرسوم كشف عُري النظام: دولة لا تُنتج تريد أن تجبي، جهاز لا يخدم يطالب بالدفع. "رؤية 2030" تحولت إلى كابوس 2025: مشاريع متوقفة، وعود متبخرة، ديون متراكمة، ومستقبل مرهون لأجيال. نيوم صارت مقبرة للأحلام والأموال، القدّية متعثرة، والبحر الأحمر ملعب للقوى الخارجية.
هكذا يستقرّ "سُلّم الأمان" في جهاز المستعمِر الوطني: كل ما يُبقي التبعية ويُجمّلها يُسرّع ويُموّل، وكل ما يقترب من الاستقلال الحقيقي يُوأد أو يُشوّه. التحديث المسموح هو تحديث القشرة: واجهات لامعة لغرف محركات مُعطّلة، ضجيج إعلامي لصمت سيادي، حركة محمومة في المكان لجمود في القرار.
خلاصة القول: في طور محمد بن سلمان، لم يتحسن شيء سوى آلة التضليل. الواجهة صارت أكثر صخباً والمحركات أكثر تبعية. التحديث الموعود تبخّر، والثروات تبددت، والمفاتيح ازدادت بُعداً. "المستعمِر الوطني" يواصل وظيفته بكفاءة أعلى: يُفقر الداخل ويُثري الخارج، يقمع المحلي ويخدم الأجنبي، يدّعي السيادة ويُمارس الوكالة. والنتيجة: دولة-الواجهة تزداد بهرجة، ودولة-الحقيقة تزداد انهياراً، والمسافة بينهما تتسع حتى لم يعد يجمعهما سوى القمع والخوف والوهم المُصنّع.
وكالةٌ بزيّ الدولة: من عبدالعزيز إلى محمد بن سلمان
"متى آتي؟ ألا تَدري؟
إلى أينَ انثنَتْ سُفُني
بلا ماضٍ بلا آت ٍ
بلا سرِّ بلا عَلَنِ"
الغزو من الداخل ليس استعارة تجميلية؛ إنّه اسم جهازٍ يشتغل بوعي: ينتج التبعية محليًّا ويُديرها بأدواتٍ محلية، فيما يبقى مركز القرار الحقيقي خارج الحدود. اختلاف التكتيك لا يلغي وحدة الوظيفة؛ تتبدّل الأقنعة وتتلوّن الرايات، لكن المحرّك واحد: واجهةٌ تُكثّف الضوء وتُكثر الحركة، وغرفةُ محرّكاتٍ تضبط الإيقاع على سقفٍ موروث. داخل هذه «المحفظة»، تبدو الوجوه متباينة: ركيزة ثقيلة في العاصمة الأكبر، رأس حربة مُعلن في مدينةٍ أخرى، ووسيط شبكي في ثالثة. حتى المنصات الأكثر مهنيةً أو جرأةً لا تُفهم خارج تقسيم العمل هذا؛ قد تقدّم خدمةً عامة ذات قيمة، لكنها تتكيّف تلقائيًا مع خطوطٍ حمر ليست من صنعها، فتؤدي—من حيث تريد أو لا تريد—الوظيفة ذاتها: توسيع نفاذ المركز وإعادة تأثيث السقف بلغتنا نحن.
في الاقتصاد يبدأ الخيط: ليس الريع مجرد بندٍ في الموازنة، بل هندسة اجتماعية تعيد صياغة العلاقة بين المجتمع والمركز. الدخل يُوزّع بوصفه منّة لا حقًّا، فينشأ حول الدولة طوق من وسطاء المقاولات والدوائر القبلية ومديري الأجهزة، يعيشون من دوام الصيغة لا من تغييرها. كل حزمة دعم تُطفئ سؤالًا، وكل تحويلٍ يشتري أسبوعًا إضافيًّا من السكون، حتى يصير الاستقرار اسمًا آخر للركود المؤمَّن. هنا يَظهر السؤال الحقيقي: هل يُدفع الفائض لخلق قدرةٍ مستقلة أم لصيانة الهدوء؟ كلما تكرّس الهدف الثاني تقلّصت السيادة بقدر ما يتجمّل الخطاب.
وبموازاة ذلك، يُعاد تعريف الأمن على نحوٍ صامت: من حماية المجتمع إلى حماية ترتيبات الضمان. تتضخّم أدوات الرصد والاختراق والضبط، وتتقدّم «إدارة المخاطر الاجتماعية» على «إدارة المخاطر الاستراتيجية»، ويُنقل الخطر الخارجي إلى مظلّة القواعد والاتفاقات، فيما تُختزل القوة الخارجية في عروضٍ باهظة وقوائم شراءٍ معلّقة على رضا المورد. تتحوّل السياسة من سؤال «من يهدّدني؟» إلى سؤال «من يُحرج منظومتي؟»، فيغدو المواطن المتمرّد على البداهة تهديدًا أول، وتغدو الحدود الساخنة ملفًّا يؤمّنه الحليف.
القبيلة والمؤسسة الدينية لا تُكسَران؛ تُستوعبان. تُحافَظ على البنية القَبَلية كشبكة ولاء تُدار بالمخصّصات والوجاهة، وتُقنَّن المؤسسة الدينية داخل وظيفة شرعنة مرنة: تُخفي الماضي حين يزعج، وتستدعيه حين يخدم. يتحوّل الشيخ—القبلي أو الديني—إلى حارس بوابة بين الدولة والعامة: يُهدّئ، يبرّر، يعقلن، يَمنح الطاعة مفرداتها ويُحيل الاعتراض إلى «فتنة». لا يُطلب منه أن يكذب؛ يُطلب منه أن يُعيد ترتيب الصدق بحيث لا يقترب من المفاتيح.
الإعلام لا يبيع أكاذيب فاقعة؛ يبني بداهات هادئة. يعلّمك أن المركز مركزٌ بطبيعته، وأن السيادة تُقاس برضا الخارج، وأن الحكمة ألّا تُحرج الأسواق. تُروى قصةٌ للماضي تُنظّف النتوءات، وقصةٌ للمستقبل تُبهرك بالعرض والضوء، وتُدفن اللحظة الراهنة تحت مهرجاناتٍ متواصلة كي لا تسمع الأسئلة الصحيحة. هنا لا تنفع «المهنية» وحدها إن كانت سقفًا؛ السؤال ليس عن جودة الصياغة بل عن حدودها ومن رسمها.
وفي القانون تُصنع الصلابة الخاطئة: نصوصٌ حداثية الشكل، انتقائية الوظيفة. واضحةٌ حين يُراد الردع، مطاطةٌ حين يُحتاج إلى منحةٍ أو عقوبةٍ انتقائية. يحمي القانون الملكية والعقود ما دامت على مسافةٍ من خطّ السلطة؛ فإذا اقتربت صار الملف أمنيًّا وتراجع النص إلى هامش التأويل. تُنتج هذه المرونة يقينًا واحدًا: مشروعك الخاص آمنٌ ما دام المشروع العام خارج النقاش، أي ما دمت لا تمسّ المفاتيح.
وتأتي حلقة الاعتماد التقني لتضع اليد على الحديدة. ليست «التوطينات» واللافتات الصناعية وحدها التي تُقاس؛ القياس الحقيقي في المكوّن الحرج: رخص التشغيل، مفاتيح الأعطال، برمجيات القيادة والسيطرة، دورات الصيانة للذخائر الذكية، شبكات السحابة والاتصال. كلّما ارتفعت درجة التشبيك بعقود تدريب وترخيص وصيانة لا تملكها الواجهة، صار الضغط أسهل: تحديثٌ مقابل اصطفاف، دعمٌ مقابل تموضع. هنا تعمل السياسة التقنية كصمام قرار: لا تعلّقك برصاصةٍ واحدة، بل بكودٍ واحد وجملة شروطٍ لا تظهر في النشرات.
أما السياسة الخارجية فتتحرّك بمنطق شركة تأمين كبرى: تشتري الحماية باصطفافاتٍ مُعلنة، وتشتري النفوذ بشيكاتٍ مدروسة، وتشتري الوقت بمبادراتٍ «سلامية» تُحسّن الصورة ولا تغيّر الخريطة. تتكامل الأدوار بين العواصم: صوتٌ صاخب هنا، وساطة هناك، صمتٌ محسوب هنالك؛ وكل طريقٍ تُفضي—بطريقتها—إلى تثبيت المنظومة الأمّ التي تحدّد السقف من فوق. التنويع قائم في المشهد، لكنّ النتيجة واحدة عند الاصطدام: لا قرار سياديًّا خالصًا إذا تعارض مع مصلحة الحارس.
حين تجتمع هذه الحلقات—ريعٌ يشتري السكون، أمنٌ يحرس الترتيبات، قبيلةٌ وعلماءُ يُقنَّنون الولاء، إعلامٌ يُعيد تهيئة الحواس، قانونٌ ينتقي صلابته، تقنيةٌ تمسك بالمفاتيح، وخارجٌ يؤمّن الداخل—يتحوّل «الاستقرار» إلى سكونٍ مُسيطر عليه: مجتمعٌ يتحرّك كثيرًا داخل قفصٍ محكم، ودولةٌ قويّة على مواطنيها ضعيفةٌ أمام سقوف رعاتها. عندها تفهم لماذا تبدو السيادة لامعةً في الخطاب وهشّةً عند أول اختبار: لأنّ السؤال الذي لم يُسأل ظلّ مؤجّلًا عمدًا—من يملك المفتاح حين تُغلق الأبواب؟—ولأنّ كل ما سبق صُمّم لكي يضمن أن يكون الجواب في مكانٍ أبعد من الواجهة، أقرب إلى اليد التي بنت القفص وأتقنت زخرفته.
الخاتمة: من «فَظيعِ الجهل» إلى «أفظعِ الإدراك»
"لماذا نحنُ يا مَربى
ويا منفى بلا سكَنِ
بلا حلمٍ بلا ذِكرى
بلا سلوى بِلا حَزَنِ؟"
يقول المثل النجدي: «ما بالفار طاهر» — بمعنى أن كلُّ الفأر نجس.
ولا ينبغي أن يخدعنا اختلاف التكتيكات عن حقيقة الوظيفة البنيوية الواحدة؛ فهذه المنظومات التي تبدو متنافرة ليست سوى أذرع تنفيذية في جسد واحد، تُدار من مركز ثقلٍ يقع خارج الخريطة. صحيحٌ أنها تُمنح هوامش مناورة محسوبة، ومساحات للتنافس المضبوط، لكن هذا التباين الظاهري ليس إلا شرطًا لنجاح الوظيفة ذاتها: خدمة المركز الذي أسّسها. وفي هذه المحفظة المتنوعة من الأدوات، تبرز قطر كنموذجٍ شديد الخطورة والفعالية، ليس لقوتها المادية، بل لقدرتها الفائقة على التخفي. إنها الأداة الأخف وزنًا والأعمق أثرًا، لأنها لا تعمل بالقوة الغاشمة بل تتغلغل في النسيج الوجداني للمجتمعات، فتستعير لغة المظلومية، وتتحدث بلسان الهمّ الوطني، وتتقمص دور المدافع عن القضايا العادلة. بهذا الأسلوب، تنجح في تمرير وظيفتها الأصلية بدرجة من الخفاء والدقة لا تتيحها الأدوات الخشنة، فتصبح مقاومتها المزعومة هي الغطاء المثالي لتبعيّتها المطلقة.
إن ما نشهده ليس فوضى أو تناحرًا عفويًا، بل هو تطبيقٌ متقن لهندسة الهيمنة الأمريكية التي صقلتها عقودٌ من الخبرة في إدارة التوابع. تقوم هذه الهندسة على خلق "تنافسٍ موجّه" بين الوكلاء، لا لإلغاء بعضهم بعضًا، بل لتحفيز كل طرف على ابتكار وتجويد أساليبه في تنفيذ الأجندة، مما يرفع في المحصلة من الكفاءة الإجمالية للمنظومة التابعة بأكملها. وهكذا تتشكل فسيفساء الأدوار التي نراها اليوم بوضوح: الرياض تؤدي دور «الركيزة الثقيلة» التي تضمن الاستقرار الهيكلي للنظام الإقليمي، وأبوظبي تعمل كـ«رأس حربة معلن» للمهام الصدامية المباشرة، بينما تتولى الدوحة وظيفة «الوسيط الشبكي» الذي يخترق الخطابات الشعبوية ويحتويها من الداخل. أدوارٌ تبدو متنافرة، لكنها تتكامل عضويًا لخدمة غايةٍ واحدة لا تحيد عنها.
الأفظع ليس أن نعرف من يمسك الأسلاك، بل أن نرى كيف صِرنا نحنُ أنفسنا سلكَ التوصيل: شيخُ قبيلةٍ صار بابًا خلفيًّا للسلطة، جامعةٌ تُقنّن نسيان التاريخ، منبرٌ يقدّس الطاعةَ كدين، ومنصّةٌ تحوّل «التضامن» إلى رصيد تفاوضي تحت السقف ذاته. بهذا يتحوّل «الغزو من الداخل» من استعارةٍ شعرية إلى بنية تشغيلية: تقسيم عملٍ بين أدواتٍ تتنافس لتحسين «الخدمة» لا لتحرير القرار.
فما العمل؟ ليس شعارًا أعلى، بل كسرُ البداهات المطبوعة في وعينا: إعادة تسمية الأشياء بأسمائها — الوكالة ليست سيادة، الحماية ليست تحالفًا، التطبيع ليس سلامًا، والازدهار بلا قرار تزيين للقفص. لا تكفي مقاومةٌ عاطفية؛ بل ينبغي بناءُ اقتصاد معنى موازٍ: ثقافةٌ تفكك قاموس السلطة، وإعلامٌ يرفض أن يعمل ستارًا، ومؤسساتُ معرفةٍ لا تُشغَّل بعقودِ الولاء.
أثبت التاريخ أن الكيانات المبنية لخدمةِ غيرها لا تقوى على حماية نفسها عند الامتحان. لذا يجب أن يصير الإدراكُ خطةً عملية: إنهاءُ العقد مع الوهم، وإعادةُ ترتيب الولاءات من «الدولة–الشركة» إلى «المجتمع–الأمة»، إغلاقُ صنبور التمويل الذي يغذي آلةَ النسيان، وفتحُ نوافذٍ تدخل هواء السياسة إلى غرفٍ خُنقت بديكور «الرؤية».
بين «الفظيع» و«الأفظع» مسافة اسمها القرار: ألا نعود جمهورًا في مسرحٍ لغيرنا، وأن نخرج «الخارج» من داخلنا — من لغتنا، ومنهاجنا، ودورات رأس المال التي تكافئ الخضوع. عندها فقط يصبح البيت خاتمةً وافتتاحًا معًا: فظيعٌ جهلُ ما يجري... وأعظم من الإدراك أن نغيّر ما يجري.
إذا أبصرَ البردوني — الأعمى — «الغزو من الداخل» بهذا العمق، فحَرِيٌّ بنا نحنُ المبصرين أن نبصر أيضًا. ما خفي لم يختفِ لبُعده، بل لقُربه الفاضح: موجود في لغتنا اليومية، في نشرات «الإنجاز»، في خطب «الاعتدال»، وفي قصّتنا الرسمية عن الشرعية. تفكيك المشهد يبدأ بتفكيك السرديات المؤسسة للشرعية. ومع تبدّل الشروط — أفول النموذج الريعي واتجاه السلطة لفرض الضرائب — تنكشف هشاشة الحكاية القديمة: الريع لم يعد قادرًا على شراء الصمت، ولا التحديث قادرًا على تغليف الأعباء بلا سؤال.
تصحيح مبس تهنئة بوتين ليس براعة سياسية فحسب، بل دليل "جهلٍ ما يجري"؛ والأخطر أن يُقال الكذبُ بوثوقِ الصادقِ الجاهل. إن كنا قد عشنا زمنَ «الفظيع» لأننا جهلنا، فنحن اليوم مهددون بـ«الأفظع» لأننا نعرف ولا نغيّر. النجاة ليست في استبدال شعارٍ بشعار، بل في كسر بداهات الشرعية المصنوعة، وبناء عقد اجتماعي جديد يعترف أن السيادة لا تُستعار من الخارج، لا تُشترى بالريع، ولا تُعقَد في قاعات العلاقات العامة؛ بل تُنتزع بوعي عمومي يسمّي الأشياء بأسمائها، ثم يصبر على كلفة أن تكون لها أسماء.
"فظيعٌ جهلُ ما يجري
وأفظَعُ مِنهُ أن تدري"