مقالات

لا بد أن يكون منا مجازفون!!

الكاتب/ة وليد أبو الخير | تاريخ النشر:2022-04-06

كلمات موهمة، تلك التي تقول إن الإصلاح لا يكون إلا تدريجياً، وأخت لها كبرى قائلة إنه لا يصنعه سوى المخططون، الحاسبون لكل خطوة حسابها، وكلتاهما يتوشحان ببعض الحق لنبذ كل الحق، غير أن موعظة التاريخ داحضة، فلا إصلاح قد حصل إلا وامتزج بالألم، ولا ألم ترتب إلا واقتات على أكتاف حامليه، المجازفين، أرباب منعرجات حادة في ذاكرة التاريخ، لا تمحى البتة.

هي الحقبة الموّلدة الممتدة من بدايات الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، من حيث بدأ الإنسان يجازف ويقفز قفزات بعيدة المدى، دروس هذه السنوات صيّرت الفيلسوف غوتة مشترطًا إياها لكل ناظر يروم الخبرة من التاريخ، وما عداها فعلماء الحضارة يثبتون ما مقداره مائة وخمسون ألف سنة من التطور البطيء، والرؤى البدائية جداً، تلك التي حكمت فاعلية الإنسان حيناً من الدهر طويلا، حتى أنه لم يستطع الانعتاق منها إلا بشق الأنفس، وعلى كاهل قلة مبدعة مجازفة رفضت مسايرة السائد.

وسقراط الذي تقترن بذرة الفلسفة باسمه هو خير شاهد، المتخفف من كل شيء حتى من ترانيم المداد والقلم، وعلى إثر مثال القابلة التي تستحث ألم الأم في دفع وليدها ليرى النور تمركز كل موروث سقراط حول إفادة المجازفة في تحقيقها الحقيقة، إذ الأخيرة لا تنتحر بإقناع معارضيها وجعلهم يرون النور، بل بالعكس، فمعارضوها يموتون في نهاية الأمر، وجيل جديد ينمو يطلع على مجازفة ما بذرت إصلاحاً ما قد حان قطافه، ومن اليوم الذي تجرع فيه سقراط  سم الشوكران ومنحنى الإصلاح في أثينا وما حولها في تسام تصاعدي حاد.

هكذا لخص الفيلسوف الألماني “اشبنجلر” منحنى الإصلاح، إذ كان يرى حركة التاريخ عبارة عن تحد قائم لإثبات الوجود، وأن صاحب الحضور الذاتي القوي هو الفاعل الأكبر في منحنى الحركة، في هذا السياق وعندما تتحد ذوات متحدية تتولد حضارة من تحت الركام، في نضال شاق، بين قوى إثبات الوجود ومستحقاته من عدل وحرية -القلة المجازفة- وقوى فرض الموجود -الأكثرية القاعدة- الغارقة في لملمة ما لا يُلملم.

يدانيه في المعنى ذاته فيلسوف الحضارة “توينبي” ونظريته “التحدي والاستجابة” حيث ينطلق من نقطة أساسية مفادها أن التقدم يصنعه عامة الشعب بالمعنى اليوناني لكلمة البروليتاريا، في عملية يطلق عليها مسمى (التسامي) وهي بالطبع طيعة المأخذ على المتخفف، إذ جوهر التسامي هو التغلب على الحواجز المادية، والمتسامون يتحولون تدريجياً ووقتاً بعد وقت إلى مبدعين، تسجل مجازفاتهم أسطورة تحكى، صالحة للمحاكاة، رغم صعوبتها، فإما أن يصدقها الواقع ولو بعد حين، وإما أن تغدو أسطورة ملهمة لواقع آخر في طور النشوء وإرادة التحدي، كما قال اينشتاين يوماً: “سيأتي جيل لن يصدق بأنه على هذه الأرض مشى رجل من لحم ودم اسمه غاندي، لكنه سيؤمن به”.

نعم ربما يتأخر هذا الإيمان عقوداً من الزمان بله قروناً، ومر ذلك لا إلى رخص المجازفة، وإنما إلى غلبة نزوع الشعوب نحو المطمئن لها المخّدر لإمكانياتها، سيّما وإن تتدثر بعباءة الدين، وهكذا كان، فيوم أن نعمت أثينا بمجازفيها خلف من بعدهم خلف أضاعوهم، ورضوا بما ملكت أيديهم، وجثمت الفلسفة الرواقية والأبيقورية قرابة خمسمائة عام تنادي أن السعادة هي الرضا بالممكن والنزوح نحو عوالم الروح، وبالمثل كان الحال عند الشيخ الرئيس ابن سينا، ليحكم الغنوص عالمنا العربي أزيد من خمسمائة سنة، ولا يزال، على الرغم من المجازفة العظمى من فيلسوف قرطبة ابن رشد المنفي إلى الليسانة بلدة اليهود!

هذا هو الحال للأسف، الاطمئنان الجمعي له الغلبة الزمنية على القلق والتحدي، خاصة إذا اقترن مع توافر مثقفين متوائمين مع السائد لا يرومون الخروج عنه، بيد أن إرادة الإصلاح إذا انتصرت سرعان ما يتفاقم أثرها متعالياً، والحالة المعاصرة تثبت ذلك، ففرنسا حتى عام 1800م معدودة ضمن الدول المتخلفة حتى جاء نابليون فقلب حالها، والولايات المتحدة تنتقل من البدائية والحروب البينية إلى قمة الصعود في أقل من نصف قرن، وكوريا الجنوبية صعدت من التخلف إلى صدارة الصناعات في غضون سنوات، وايرلندا في أقل من 10 سنوات تغدو من أكثر دول العالم تصديراً للتكنولوجيا الحديثة، إلى آخر ما هنالك من أمثلة عديدة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المعرفة وثب، كما قال كارل بوبر، وأن التقدم ثورة، كما رأى توماس كون، وأن المجازفة فرض كفاية، كما كتب الأستاذ العقاد، بها يُرفع عن المجتمع إثم الخمول وتُعلى رايات الأمل.

إن روعة المجازف تكمن في رفعه التفكير الجمعي من مستويات الشخصنة والغايات الأنوية الدنيا إلى الغاية العام والهدف الكلي، في حالة من تواضع تام مهيب، حتى أن العامة يظنون ذاته حقيرة عليه، بيد أنها عزيزة، كأعز ما تكون على صاحبها، ولا أدلّ على ذلك من تعب جسده في تحقيق مراده الكبير، وسط بيئة تنبذ المجازفين، أما وأنه متصالح مع نفسه، فمنحنى إيمانه بقضيته قد ظل مستقيماً أبداً لم ينحنِ ولم يضره من خالفه، رغم أنهم كثر، فالمصلح واحد والمفسدين كثر، والمجازف بمجازفته يرجّح الكفة رغم ثقل المهمة..

إلى : د.عبدالرحمن الشميري.. د.مبارك بن زعير.. محمد البجادي.. توفيق العامر.. د.يوسف الأحمد.. فاضل المناسف.. عبدالعزيز الوهيبي.. خالد العمير.. محمد العتيبي  وآخرون كثر..

إننا مدينون كثيراً لكم أيها الفضلاء المجازفون، مدينون لكم جداً، مدينون لكم سفركم اللثام عن مدى عجزنا ومدى قوتنا في آن معاً، إنكم بلا شك هبة ونعمة وفضل..

إلى أرواحكم التي تحلق بيننا وأنتم هناك في معتقل الظلم.. إننا لم ولن ننساكم..