مقالات

الاتجاهات الأيديولوجية ووهم الخلاص

الكاتب/ة ناصر العربي | تاريخ النشر:2025-07-25

خلال القرن الماضي تفشت الحركات الأيديولوجية من أقصى اليمن إلى أقصى اليسار مدعية أنها الخلاص الحتمي لمشكلات المجتمع والسياسة والاقتصاد، حيث اليسار والحركات الشيوعية والرغبة في تطبيق العدالة الاجتماعية وتقاسم الثروة إلى الحركات الإسلامية بكافه أطيافها التي تدعي وتزعم تطبيق شرع الله. فشلت جُل هذه الاتجاهات في اقناع الجمهور العام وقواعدهم الشعبية بواقعية هذه الأفكار، بل أن معظم نقاد هذه الاتجاهات الفكرية خرجوا من رحم هذه الحركات. حيث كتب أستاذ علم الاجتماع برهان غليون القدير بيان من أجل الديمقراطية، يعلن فيه موت الوهم الأيديولوجية لحركات اليسار العربية ويدعو إلى الانتقال فكرياً وتطبيقاً نحو ممارسة ديمقراطية في الواقع العربي. وكتب في نفس السياق المرحوم الدكتور محمد عمارة كتابه الخالد هل الإسلام هو الحل؟ الذي عرى وهم جماعة الإخوان المسلمين في واقعية مشروعهم السياسي، بأن الشعارات ليست ضمان لوجود حلول وبرامج للاقتصاد والسياسية والتنمية الاجتماعية ومواجهة إشكاليات حقيقة مثل الفقر والبطالة، والتلوث، وصراعات إقليمية ،ودولية.

إدارة الدولة والمجتمع هي برامج بيروقراطية في المقام الأول، يتم تصميمها على قدر فهم أصحاب الشأن في هذه الموضوعات وعلى قدر جديتهم ومهنيتهم وعلمهم تكون هذه البرامج ذات قيمة حقيقية. في المقابل، أن ادعاء وجود الحل بوصف مجموعة أنهم إسلاميين وأصحاب مشروع إسلامي ليس بالضرورة أن تكون واقعية وصادقة في قدرتها على حل مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية. فالإسلامي أو العلماني أو الليبرالي في آخر المطاف هو شخص يحمل أفكار في عقله وخطابه، لكن هذه الأفكار عندما يحاول أصحابها تحويلها إلى مشاريع فهي معرضة لمأزق واقعي، وهو أن الأفكار المعشعشة في الدماغ كشعارات ليست بالضرورة هي الحل. على سبيل المثال، إن ادعاء النزاهة والتقوى الشخصية والورع والإيمان لا يكون دليلاً ولا نموذجاً على أن هذا الشخص أو هذه الجماعة سوف تنجح في مسارها السياسي. فصلاح حال الفرد ليس له علاقة بقدرة الشخص على حل معضلة سياسية أو اقتصادية. فحسن الترابي رحمه الله عليه، ذكر تجربتهم في السلطة، وكيف أن وهجها وامتيازاتها أسكرت عقول رفاقه وجعلت بعظهم ينسى ضميره وأخلاقه وتحول إلى طاغية ومستبد.

ولأن طبيعة الإنسان الأبدية مطبوعة على التحيز للخير والشر، كنزعات نفسيه تمر على كل أبناء وبنات أدم، ويمتحن الإنسان أمام نفسه في كل لحظة، لكن الامتحان الأهم عند وجود سلطة في يده، فإن بعض البشر ينسى نفسه ويتحول إلى طاغية. ولهذا الرقابة الذاتية أو ادعاء الإسلامية والحل الإسلامي ليس هي الحل، بل التشريعات القانونية والشعبية هي من تجعل الأمة والمجتمع رقيب على من في السلطة. الإسلاميين في المحصلة بشر لهم مالهم وعليهم ما عليهم، ونزع هاله القداسة والطهارة عنهم ضرورية لفهم واقعيتهم السياسية. وكذلك العلمانيين والليبراليين، نزع أواهم العقلنة والرشد عن هالتهم الشخصية ضرورية لفهم واقع مشروعهم السياسي. لهذا فالمحصلة ليست بالشعارات والأيديولوجيا البراقة من أي طيف كائن ما كان، إنما العبرة بطبيعة العمل والمشروع والبرامج الواقعية من خلال فهم أصل الإشكاليات وإيجاد حلول ممكنه ومقنعه للمجتمع. 

تتجلى أمامنا حقيقة لا لبس فيها: أن المعضلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تُحل بالشعارات ولا بالانتماءات الأيديولوجية، بل بالفهم العميق للواقع وتصميم برامج عقلانية قابلة للتنفيذ. لقد أثبت التاريخ مراراً أن الأوهام الأيديولوجية، سواء جاءت باسم الدين أو العدالة الاجتماعية أو التقدم، سرعان ما تنهار أمام تحديات الواقع المعقدة حين تُفتقر إلى أدوات المعرفة والخبرة والنزاهة المؤسسية. وهنا يبرز الفرق الجوهري بين من يرى السياسة ساحة للوعود والانفعالات، ومن يدرك أنها فن إدارة الممكن وفق معايير الكفاءة والمساءلة والصدق قبل كل شيء مع النفس ومع المجتمع، فمن يكذب لأجل تسويغ فهلوة سياسية، لاضمان ولا أمان له. ولهذا فالخلاص ليس وصفة سحرية تُستحضر من ادعاء فهم نص ديني وتطبق حكم الله أو من فلسفة بشرية سامية، بل هو نتاج عمل دؤوب ومراقبة مجتمعية وتشريعات واضحة تضع الإنسان في قلب العملية، لا في هامشها. 

وعليه، فإن تفكيك أوهام الخلاص الأيديولوجي ليس دعوة إلى العدمية والتجرد من قيمنا العربية والإسلامية والإنسانية، بل هو نداء للعقل والواقع من أجل بناء مستقبل يستند إلى البرامج لا الأوهام، وإلى الكفاءة لا الخطاب، وإلى المؤسسات لا الأفراد. بذلك فقط يمكن أن تبدأ المجتمعات في الخروج من دوامة التقديس العقيم نحو ممارسة ناضجة للسياسة، يكون فيها المواطن هو الرقيب، والمصلحة العامة هي البوصلة.