مقالات

خطر الخيال الاستبدادي

الكاتب/ة ناصر العربي | تاريخ النشر:2022-08-10

جُل الطغاة في التاريخ الإنساني يتوقون إلى انجاز عمل لم يسبقهم إليه أحد، منذ الأزل كان الطغاة هذا هو جوهر همهم، لقد أسرف الفراعنة في بناء جبال من الصخور على ظُهور ملايين المسحوقين من البشر المستعبدين وتسخير الأرض ومن عليها وما في باطنها خدمة لهذه الأسر الفرعونية. في التاريخ الأوربي القديم، ورث الإسكندر الأكبر مملكة مترامية الأطراف وذات ثروات وخيرات لا حدود لها. كان الإسكندر يطمح لشيء لم يسبق له أحد من البشر وهو الوصل بجيش أبيه إلى نهاية العالم، ولكي تتحقق هذه المهمة، ذهب إلى الشرق إلى بلاد فارس ثم الهند زحافاً بجيش ضخم يزج به في حروب لا غاية منها إلا تلبية نداء جنون العظمة الذي يسكنه، لكن هذا المسعى هو الذي دمر مملكتهم، و بسببه تمرد الجنود عليه لما يعانونه من خوض الحروب والمواجهات التي لا فائدة منها بالنسبة لهم. هكذا هم الطغاة، يسعون بوهم في بناء أكبر و أعظم ما يريدون دون إجراء حسابات بسيط لقيمة ومكانة الإنسان.

لا يهم ماهي قيمة هذا الإنسان، المهم أن تترجم الخيالات والأوهام الجريئة إلى واقع حتى لو كان كذباً، مهما كانت التكلفة البشرية والمادية. الطاغية لا يعرف أن الحضارات تقوم على الانسان، بنائه، عقله، معرفته، والاستثمار فيه، وليس استهلاكه وسحقه. الطاغية لا يعلم أن الإنسان هو من يصنع المعجزات، لكن ليس بالاستبداد، بل بالمشاركة في التخطيط والعمل. أما منطق لا أريكم إلا ما أرى فهذا هدم وأذان بقدوم خراب العمران والأوطان. الطاغية لا يفكر بشكل مجرد ومنطقي أن ١ +١= ٢، لكن هو متكبر وجاهل بأبسط قواعد الحكم والعمل والحسابات الرياضية. يعتقد أن القوة الجبرية والعقاب هما المساران الوحيدان لبناء المنجزات التي تخلد ذكراه، لكن هيهات. فالطاغية قليل المعرفة، قصير النظر، سريع الغضب، كثير الفساد، فاقد للجلد والعمل، خالياً من الحكمة والصبر، تافه السيرة والسريرة، ناكثاً للعهد والوعد، والأهم من هذا كله أنه فاقد للأهلية والشرعية السياسية كل يوم أكثر من اليوم الذي قبلة.

           

هذا الطاغية، يجهل أنه بتعنته في الإصرار على الشكليات في بناء أكبر، أضخم، أعمق، أطول، أغلى المشاريع أنه يحفر قبرة بنفسه. فالنجاحات ليست بإطلاق الوعود حول أكبر، أضخم، أعمق، أطول، أغلى بل في الحسابات الإنسانية والمادية. هذه الحسابات يعلمها معظم الناس العاديين، وليس العباقرة، فبناء مشاريع تسهل حياة الناس حتى لو كان طريق، مدرسة، جامعة، نادي رياضي، حديقة، مطار، مشروع تجاري، تعني لهم الكثير لأنها تلامس حياتهم وتتأثر بها حساباتهم المادية. أما هدم نصف مدينة كما حدث في مدينة جدة، بدون أي تخطيط ولا ترتيب فهو يؤثر على حياة الناس سلباً ويفقرهم، ويشردهم. كل هذا لا يهم، هكذا يفكر الطاغية، أنا أقوم بما أعتقد أنه صواب، لن يملي علي الشعب ما هو صحيح وما هو خطاء فأنا الأكثر حكمة بينهم، أنا عبقري زماني، أنا ملهم العالم أنا تجاوزت الحدود، أنا سوف أجعل من العالم العربي أوروبا الحديثة، هكذا يفكر الطاغية.

 

أنا سوف أجعل الجاذبية تنعدم في مدينة نيوم، سوف أجعل الناس تتحرك باتجاه ثلاثي! مهما شكك أهل الاختصاص في البناء ومخططي المدن وعلماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة وكتاب الصحف وأصحاب الرأي، والمواطنين والأجانب والكبار والصغار والعقلاء وبعض المجانين لا يهم، المهم أنا الحكيم الذي أعرف ماذا أريد، أنا الحكام الذي يسعى لبناء المجد، أنا أمير الشباب، أنا أفعل وأرى الحلم حقيقة. لا يهم، حتى لو صفرت الميزانية، سوف أفرض على الشعب الضرائب، وأقتطع من رواتبهم وخيراتهم وأموالهم، حتى أتأكد أن مشاريعي سوف تتم ولو في الخيال.

هذا هو مقطع من حوار الطاغية مع نفسه، يرى الواقع عبر الخيال الذي يسكن رأسه، ويختلط عليه الأمر في بعض الأحيان بين ما هو حقيقي وما هو خيال، المهم أنه لا يريد التفكير في الواقع، في الأرض، في الناس، في التراب، لا يهم المهم هو الخيال، لهذا أحذروا من خيال الطاغية.