مقالات

ورحلت مستعمرة المحميات العربية ! 

الكاتب/ة سلمان الخالدي | تاريخ النشر:2022-09-17

الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.. هكذا غابت زعيمة الإمبراطورية البريطانية الملكة إليزابيث الثانية في الثامن من سبتمبر 2022 بعدما بلغت 96 عامًا، تخللها حكمٌ دام 70 عامًا منذ كانت في ريعان شبابها عن عمر 25 عامًا عام 1953، لتحتل المرتبة الثانية في قائمة أطول الملوك حكمًا في التاريخ، بعد لويس الرابع عشر الذي حكم لمدة تجاوزت 72 عامًا، تعتبر فترة حكمها طوال أكثر من نصف قرن ذو مكانة رمزية أكثر منها سيطرة وحكم على شعبها، بريطانيا ليس لديها دستور مكتوب فعليًا، إلا أن وعي الشعب بحقوقه وحرياته وقراءته الجيدة لتاريخه القديم والعصور الجاهلية المظلمة ورفضة العودة لها، كان كفيل بأن يكون وحده دستورًا ينظم علاقته بنفسه ليحكم بلده عبر رئيس وزراء منتخب وبرلمان يدير شؤونه لتكون الأسرة الحاكمة في بريطانيا تملك ولا تحكم في ملكية دستورية ، إلا أن الملكة عاصرت 15 رئيس وزراء بريطاني بدءًا من ونستون تشرشل ختامًا بليزا تراس ، والتي تعد المفارقة اللافتة هنا بتكليف تراس بتشكيل الحكومة 56 في تاريخ بريطانيا قبل يومين من وفاتها فقط، لترحل الملكة في آخر ممارسة لصلاحياتها الدستورية.


كنت في رحلة ترحال لإستكشاف تاريخ المملكة المتحدة الذي صادف الاسبوع الماضي، وهو ما وقع وفاة الملكة اليزابيث، ألتقيت في مدينة غلاسكو في اسكتلندا العديد من سكانها الذي تبين لي أنهم ضد الملكية في بريطانيا، وهو ما أوضح لي كيف أن العقل العربي يقدس الملكية، ويعشق أي حاكم أو صاحب سلطة حتى وإن كانوا يجهلونه، إلا أنهم يدمنون تقديس دكتاتورييهم من عامة الناس وبالأخص أولياء الأمر وأدركت من خلال الشعب انهم ضد سياسة اليزابيث، وينتظرون إستقلال اسكتلندا من بريطانيا في الإستفتاء المنتظر بعد عام واحد من اليوم وهو ما يؤكد إلى أي مرحلة تعني أن الشعوب الحيّة هي من تصنع واقعها. 


ولأن للتاريخ جانب مظلم على الدوام، فالملكة لديها تاريخ إستعماري بوجهٍ قبيح للغاية، فهي تزعمت أحد أكبر التكتلات العالمية رابطة دول الكومونولث وهو ما يعني إستعمارها إلى 56 دولة في جميع قارات العالم بعدد سكان تجاوز 2.5 مليار نسمة من السيطرة والتحكم في موارد ثلث العالم، وعلى الصعيد العربي، امتدت أيادي المستعمرة، بوضع قنابل موقوتة شديدة المفعول والإنفجار بترسيم حدود جغرافية جائرة والعبث بها، وترك جزر متنازع عليها جغرافيًا في المنطقة، مثل جزر حوار بين البحرين وقطر، والجزر الإماراتية ومنح الشاه في ايران غطاء لإحتلالها، والحدود الشمالية البحرية بين الكويت والعراق وإشكالية الترسيم وهي كانت شرارة الغزو الصدامي العراقي الغاشم على الكويت في عام 1990، والمنطقة الشرقية المقسومة والمنهوبة من الكويت للسعودية، ومنطقة العديد بين السعودية وقطر، والحدود البرية بين قطر والإمارات بظل إحتجاج سعودي على سير هذه الحدود عبر المملكة، والأزمة الحدودية التاريخية بين سلطنة عمان والإمارات. مايؤكد أن مخطط الإستعمار لتفكيك الشعوب العربية وإضعافها وكأنهم يعلمون عن مستقبل العقل العربي الرجعي، وقد قامت تلك الملكة أو ملكة الإستعمار مع سبق الإصرار والترصد برسم الحدود على خرائط دون المعاينة الشخصية الميدانية على الأرض والواقع الحدودي لتترسب ويدفع الشعوب ثمن هذا الخطأ الذي لا يغتفر ليومنا الذي كلما أصبحنا بين حين وآخر نشاهد أزمة سياسية بسبب تلك الحدود وكأنها لعنة إستعمارية ستلحق العرب والعروبة للأبد. 


لكن الأقسى وقعًا لكل عروبي هي زرع تلك الملكة المستعمرة للكيان الصهيوني في أرضنا العربية فلسطين وعاصمتها القدس، عبر وعد بلفور المشؤوم ولعنته على العرب عام 1917 حيث قامت بريطانيا بتأسيس وطن قومي لليهود لتبدأ قصة زرع بذرة الصراع العربي الصهيوني بتوطئة أقدام الصهاينة في أرضنا العربية. 


العجيب هنا أن ذات الملكة زارت وجالت العالم عبر 120 دولة بينهما 13 دولة عربية وخليجية، لكنها لم تزر الكيان الصهيوني بتاتًا! وكأنها رسالة مبطنة للعرب تطلب منهم المغفرة والتكفير عن ذنب إستعمارها واحتلالها دولة فلسطين بمنح من لا يملك لمن لا يستحق في اليوم الموعود الذي رحلت خلاله في الثامن من سبتمبر! 

الشعوب حتمًا لن تكفر ذنبها الذي عمل على إسقاط حكومة مصدق في إيران لتأميمه النفط، أو مساعدة الولايات المتحدة في الهجوم في 2001 و 2003 على أفغانستان والعراق، أو جرائم قتل الشعب في إيرلندا الشمالية التي هتفت جماهير أحد أنديتها "ليزي في الصندوق" فرحًا بموت ملكة الإستعمار الأبدية، أو تكفير ذنبها عن إبادة الهنود الحمر، وسكان استراليا، ومسلمي الهند، ومجاعة بنغلاديش، أو إستعباد أفريقيا وتجهيل شعوبهم وتعزيز دكتاتوريتها عبر الإنقلابات العسكرية المدعومة، أو قتل الملايين الصينيون في حرب الأفيون، ختامًا بإستعمار ونهب العالم أجمع.. كل هذة الجرائم العابرة للقارات والتاريخ بأكمله إرتكبت بإسم "التاج البريطاني" والملكية البريطانية الذي سيبقى خطيئة كبرى في تاريخها المظلم لملايين الضحايا من شتى الأمم عبر إرثها الدموي والعبودية والمجازر وسحق الشعوب الأصلية واستنزاف خيراتها. 

لست من محبين الملكة بسبب تاريخها الإستعماري وآثار الإبادة الجماعية، وليس متقبل لسياستها إنما أنا ضد ذلك، لكن كونها إمرأة تتمسك بالمبادئ الإنسانية لمن يلجأ إليها فهو شفيعٌ لها في زمننا الديكتاتوري السلطوي الحالي، واليوم تحتضني ذات الملكة من غياهب الظلام والإستبداد العربي المتخلف، وتنتصر لحقي في التعبير عن رأيي لتعكس مقولة أن بريطانيا كشعوب إنسانية حيّة حقًا. 


يتهافت طغاة الإستبداد العرب لتقديم التعازي للملكة عبر جمل تعريفية إنشائية شاعرية وهي في حقيقة الأمر، تصف واقعهم وحالتهم أنفسهم، وكانها الرسالة والتعزية ترتد لهم وتقول: كونوا كالملكة في مبادئكم المستبدة! 


برحيل الملكة إليزابيث، يرحل معها كل من نصبتهم من حكومات تابعة للإستعمار البريطاني، وسقوط جسر لندن هو سقوط لهذه الحكومات المتخاذلة والوكيل الرسمي لها، وما يظهر من رثاء مزيف وترحم عليها، ماهو إلا في حقيقة الأمر أبواق تلك الأنظمة، وهم ذات الأبواق التي تطبل وتخوّن وتشيطن ثوار وأحرار ومدافعي حقوق الإنسان في هذه الأوطان، فالعقل العربي المستعبد يتسابق على طغاته ويقدس ديكتاتوريته المستبدة ومن دمر أوطانه وهم حقًا عبر حكامهم أسوأ بسنين ضوئية مما فعلت الملكة التي كانت تنتصر لشعبها دائمًا، ولكن الويلات لمن يترحم على ملكة تمسكت بمبادئ إنسانية وحفظتني شخصيًا من السجون المظلمة بسبب صدى صوتي الحر! 
رحم الله الملكة اليزابيث، وكل روح حرّة إنسانية حافظت على حقوق إنسانية -رغم حملة التوقيفات مسبقًا-. 
يقول محمد إبن الذيب في رثاء الملكة:


يالله اللي تجعل الراعي على الأشراف حاكم
عظم الله اجركم يا أسيادنا واحسن عزاكم 
‏الحزن  فعيونكم من ليلة البارح تنامى
‏امبراطورتكم اللي نصّبت فالحكم اباكم
ودّعتكم و أقفت وخلت مشاعركم يتامى
النشاما ما تضيق إلا من فراق النشاما