أحمد الشولي
لا يربط الولايات المتحدة الأميركية أي اعتبار قيمي بإسرائيل بالرغم من كل مظاهر عبارات العشق والغرام التي يكررها المسؤولين الأمريكيين منذ ستين عاما تقريبا.
أمريكا كانت ولا تزال مليئة بكراهية اليهود ضمن نفس تنويعة معاداة السامية الأوروبية، التي قامت باختصار على تحميل الكوارث الاقتصادية على كاهل المصرفيين والقائمين بالأعمال المالية والجواهرجية في العصور الوسطى. كانت نسبة اليهود بين هؤلاء أعلى من نسبتهم كسكان، ببساطة لتواجدهم الأكبر في المدن من الريف الذي طردوا منه سابقا مع تصاعد الإقطاعية واستنادهم على الكنيسة خلال أكثر أطوارها عدوانية.
على سبيل المثال، مجلدات حكماء صهيون، التي للأسف لا تغيب عن رفوف متاجر الكتب العربية، تبنّى تأليفها ونشرها هنري فورد شخصيا بالتحالف مع جون مورغان في السنوات السابقة لانهيار ١٩٢٩، لكبح مجموعة من المصرفيين اليهود الجدد في طور الصعود، أمثال الأخوان ليمان ،الاسم المرتبط بأزمة ٢٠٠٨، وچولدمان ساكس، الذي أصبح اليوم قائد سوق استثمارات الأوراق المالية. استغل كتاب حكماء صهيون ذخيرة قرون من كراهية اليهود وتلقف منشورات اوروبية مختلفة من هذا القبيل وأرسلها الى الشهرة العالمية.
ثم أخذت كراهية اليهود في أوروبا، وتباعا في أمريكا شكلا جديدا مع نهاية القرن التاسع عشر. كان اليهود المتواجدين أكثر في المدن، بسبب الأحقاد الريفية القديمة ضدهم، بالطبيعة أكثر تواجدا ضمن موجات البروليتاريا الأولى، وبالتالي في النقابات العمالية والأحزاب والحركات الاشتراكية والشيوعية، وهو ما أعطى النخب الحاكمة ضرورة جديدة لبث الكراهية ضدهم. مما يعني أن اليهود أصبحوا مكروهين في زخم الأفكار اليمينية الدنيئة مرتين، لأنهم المتحكمين بالأموال من جهة، و لأنهم العمال التابعين للاتحاد السوفياتي والطابور الخامس في الدول الغربية من جهة أخرى في نفس الآن.
في الستينيات تم خلخلة كراهية اليهود في أمريكا لتسمح لهم بتبوء دور اجتماعي أكبر. لماذا؟ لأن أمريكا قررت في الستينيات أن اسرائيل كرت رابح في تموضعها الامبريالي بعد استحكام الخلاف مع القومية العربية ونصر اسرائيل الهائل في ٦٧. ظهرت الأحلاف الصهيونية بيسر ضمن القبول الأمريكي، وترجمة رغبات اسرائيل الكثيرة، على ثقلها وبشاعتها، ومرت على إسرائيل لحظات اختالت بنفسها وقدراتها لتخرج عن الخط الأمريكي، ليأتي السوط الأمريكي ضاربا سالخا ممزقا لظهر اسرائيل عندما تنمرت مثلا على مؤتمر مدريد للسلام، وعندما باعت تكنولوجيا متطورة إلى الصين. يعني عندما تغلط اسرائيل أو بتثقل دمها مع أمريكا أكثر من اللازم، الكف بيجي بسرعة كثير.
بالتالي، اللوبي الصهيوني يشتغل مثل كل لوبيات المصالح المنظمة في أمريكا، مع دولة لها درجة من الاستقلالية عن الطبقات الرأسمالية، حيث تحتاج جملة المصالح المنظمة هذه أو تلك لبذل جهود في الساحة السياسية لتشريع أو لتمويل مرغوب. شركات الأدوية، الدخان، السلاح، تعمل بهذه الطريقة.
الدول العربية تعمل بطريقة تكثيف العلاقات مع لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ لضمان عدم عرقلة الخطوط العامة التي يتم توضيبها مع الرئيس الأمريكي نفسه، لكي لا يكونوا دروع في المناوشات الداخلية الامريكية. لم يعد هذا يكفي دولة مثل الإمارات، فعمدت إلى شراء ماكينة اللوبي الصهيوني من خلال استفادتها من إسرائيل بشكل مباشر، وعقد هذا الاتفاق الجامح الطافح بالفجور والجحود للفلسطينيين.
المشاريع التوسعية للإمارات والممارسة الكولونيالية في اليمن، والممارسة الامبريالية في ليبيا، والتدخلات المتنوعة في الصومال واريتريا واثيوبيا والسودان، والارتباط الاقتصادي الأعمق مع الصين من جهة ومع روسيا من جهة أخرى، يجعل الامارات اكثر تواجدا في رادار الاهتمامات الامبريالية الامريكية، ويتطلب بُنى مناسبة للتواجد في هذه الميادين. عقدت الإمارات عزمها على استعمال اسرائيل ولوبياتها بهذا الشكل بدلا من بناء واحد خاص بها، فلا قاعدة جاهزة لها في أمريكا لتحمله.
هذا منطق اللوبيات في أمريكا، ويعمل بكثافة داخل الساحة الانتخابية، والسبب في ذلك أن الحزبين في أمريكا ليست أحزابا بالمعنى التنظيمي، بل ماكينات انتخابية يعوزها الكثير من التماسك في دولة فيدرالية لسلطاتها المحلية قدرات كبيرة، والذي تتسلل اللوبيات من خلال حاجة المرشحين للعمل في بيئة سلطة متعددة المستويات وبلا أجهزة حزبية تصنع ممثليها وترعاهم
على ماذا يسهر اللوبي الصهيوني اليوم في أمريكا؟ على مكافحة التجذر المناهض لإسرائيل داخل الحزب الديموقراطي من صعود اليسار الحالي في أمريكا، والذي يأخذ بعدا جليا كبيرا في غير صالح اسرائيل كل ما مر الوقت. ببساطة تطبيع الامبريالية الأمريكية في أذهان الأمريكيين لم يعد فعالا، الأوضاع الاجتماعية الداخلية في أمريكا في تدهور مستمر، والحنق على المصاريف غير الاجتماعية في ازدياد دائم حيث تعاني الطبقات الوسطى في أمريكا في التعليم والصحة والسكن، ودلال اسرائيل على حساب الناس بات أقل قبولا. إسرائيل اليوم، وحلفائها في الخارج، يتقاربون مع معادي سامية معروفين، لأن أجواء اليمين هي مرتع إسرائيل المناسب وبطانتها، من كارهي المسلمين، والعسكرة، والأوتوقراطية.
حديث بايدن عن عشقه لإسرائيل والصهيونية يمكن فهمه من موقعين: أهميتها الاستراتيجية لا تزال قائمة، واللوبي أبو المصاري مذعور من التغيير الحاصل في البلد و يمكن ابتزازه بسهولة أكبر بكثير. وهذه الوقاحات ستندثر جميعها مع أول تبدل في ترتيب المصالح الامبريالية العامة لأمريكا، وليست قدرا خالدا.