في يوم الخميس الرابع والعشرين من شهر نوفمبر الماضي، وقبل يوم من إحياء الذكرى السنوية الثالثة عشر لكارثة سيول جدة عام 2009، شهدت مدينة جدة كارثة سيول جديدة لا تقل خطورة عن سابقتها. حولت هذه الكارثة خميس جدة السعيد للسواد المجلل بأجواء الحزن، والقلق، والرعب.
فبحسب الإعلام الرسمي أدت الكارثة إلى خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات الخاصة. تابع السعوديون والسعوديات عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة مخيفة ومفجعة لسيول جدة لا تليق ببلد لديه مقدرات وإمكانيات كبيرة مثل السعودية.
يظهر الغضب الشعبي على تويتر من الوعود الوهمية المتكررة بالإصلاح والمحاسبة عند كل أزمة تحدث. فما حدث بالأمس هو كارثة تحتاج لمعالجة سريعة، والأهم من هذا وذاك، لابد من توفير حلول جذرية وشاملة. يجب على النظام تجاوز عقلية الهروب عن طريق إطلاق وعود فارغة يظن أصحابها أنها تمتص غضب الناس وتخدرهم على المدى البعيد، بينما هي في الحقيقة تكوّن غضبا متراكما يؤخر القمع انفجاره مؤقتا لكنه لا يمنعه، وهذا ما لا يستوعبه كل دكتاتور يظن أن القمع هو الطريقة المثلى لترسيخ سلطته.
نعلم جيدا أن ما حدث في جدة ليس صدفة أو حادثة نادرة، بل هو كارثة ضمن سلسلة كوارث أنتجها الفساد وضعف البنية التحتية، وإهمال من يفترض أن يكون دورهم خدمة الناس وحماية حقوقهم و حرياتهم. لكن في غياب سلطة الرقابة والمحاسبة الشعبية وسيادة السلطة المطلقة، يعبث هؤلاء كما يريدون بمقدرات البلاد ثم يستغفلون الناس بوعودهم الفارغة ومشاريعهم الخيالية الوهمية التي يسخر منها القريب والبعيد. فليس هناك من يحاسبهم أو يراقب تنفيذ هذه الوعود من عدمه.
من الواضح أن أصل كل الكوارث هو كارثة الفساد السياسي، والملكية المطلقة، وغياب آليات التمثيل الشعبي، وغياب حرية التعبير والصحافة والإعلام، وقمع كل رأي يخالف أو ينتقد ما تقوله السلطة. فاجعة سيول جدة هي أحد نتائج القمع ومنظومة الاستبداد الفاسدة المتوقعة واستمرارها دون معالجة شاملة يعني بالضرورة استمرار نتائجها الكارثية مثل السيول واحتمالية تكرارها عالية جدا مع الأسف.
في هذه الأوقات العصيبة نتذكر ببان جمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية "حسم" التاريخي عن كارثة سيول جدة 2009 بعنوان "لكي لا تتكرر الكارثة : البرلمان بر الأمان." ناقش البيان بتوسع قضايا الفساد في السعودية، ثم كارثة السيول وجذور الأزمة كاملة، وربطها بشكل موضوعي وعقلاني بالفساد والاستبداد. كما طرح أيضا حلولا شاملة تتجاوز الحلول الوقتية أو الشكلية عبر ما يسمى لجان تقصي الحقائق ومكافحة الفساد، لتضمن بشكل حقيقي محاسبة الفاسدين والمسؤولين عن تلك الكارثة أولا، ومن ثم عدم تكرارها باتخاذ خطوات إصلاحية شاملة، والعمل على تطوير البنية التحتية والقضاء على الفساد.
و أكد البيان أن "على أمير المنطقة مسؤولية مطلقة لأنه مخول من قبل الملك بصلاحيات واسعة في إدارة شئون المنطقة، فليس له التنصل منها بإلقاء المسئولية على أمين البلدية أو مدير الصرف الصحي، فالسلطة تفوض والمسؤولية لا تفوض."
قام ذلك البيان الهام والغير المسبوق لجمعية حسم بتشخيص دقيق للأزمة وطرح حلول شاملة، لذلك ينبغي الإشارة له من جديد، خصوصا ونحن نرى ذات الظروف والأسباب قائمة ومتشابهة، وكذلك الحلول، رغم مرور أكثر من 13 عام. ألخص أبرز ما جاء في بيان حسم في النقاط التالية:
١- جرثومة الفساد السياسي هي المسؤول الأول عن ضياع مقدرات الوطن، وهي السبب الأساسي في معاناة المواطنين/ات ، وإليها تعود جميع المشكلات التي تواجه البلاد، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
٢- التأكيد على أن الحل الأول لهذه الكوارث هو ابرام صيغة جديدة لعقد اجتماعي بين الشعب والنظام السياسي وهي الدستور، والذي يتم فيه التوصل لآلية توزيع الدخل بين الشعب والأسرة الحاكمة، وتقنن فيه دخول الأمراء على أن يرفعوا أيديهم عن المناصب التي يتوارثونها ، ويترك للشعب حق التصرف في الميزانيات الحكومية التي رصدت لخدمته ولتنمية الوطن.
٣- تكمن المشكلة في بقاء أمير المنطقة في منصبه عدة عقود دون رقابة أو تقييم أداء ومتابعة منجزاته، وتكمن في انحصار مؤهلاته بكونه من الأسرة الحاكمة فقط. لذلك طالبت حسم بأن ينتخب سكان المنطقة الحاكم الإداري لمنطقتهم من عامة الناس، لتسهيل مراقبته ومحاسبته وألا تتجاوز فترة انتخابه أربعة سنوات، وألا تجدد إلا لمرة واحدة، على أن لا تتجاوز مجموع فترات الولاية ثمان سنوات.
٤- الدعوة إلى التسريع بتشكيل برلمان ينتخب أعضاءه عامة الشعب رجالا ونساءا ليكون جهاز محاسبة ومراقبة لعمل السلطة التنفيذية، ويكون لدى البرلمان صلاحيات واسعة لمساءلة ومحاسبة الوزراء وكبار المسئولين في الحكومة، كما أنه يسن ويراجع الأنظمة ليتأكد من مناسبتها للصالح العام.
٥- المطالبة بتحرير وسائل الإعلام لتستطيع القيام بدورها الرقابي وحماية استقلاليتها عن تدخلات كبار المسؤولين الذين يقلقهم وجود صوت مستقل قادر على النقد
٦- رفض بيان حسم لجان التحقيق الحكومية لأنه لا يمكن لأجهزة حكومية برئاسة أمير المنطقة التي وقعت فيها المشكلة أن تتوصل إلى قرار مستقل، كما أنه لا يمكنه التحقيق في مخالفات إدارية في منطقة هو أميرها ويتولى جميع مقاليد الأمور فيها، وأي مسؤول بهذه الكيفية يستطيع تضليل العدالة وحماية الفساد. لذلك ينبغي على لجان تقصي الحقائق أن تكون من شخصيات خارج الإطار الرسمي قادرة على استجواب كافة المسؤولين بما فيهم الأمراء.
وبدلا من أن يستجيب النظام لهذه المطالب العادلة التي كانت ستحل معظم أزمات البلاد حال الاستجابة لها بحكمة وواقعية، تم حل الجمعية في مارس 2013 واعتقال أعضائها، وقمع مطالبهم، وحتى مناصريهم، و اتهامهم بالسعي إلى "تعطيل التنمية" وحتى اليوم لا يزال أولئك الأبطال في السجون.
مع الأسف، تحقق اليوم ما كانت حسم تحذر منه وتكررت الكارثة من جديد رغم إدعاءات مكافحة الفساد والتنمية، فمن يحاسبهم والخصم هو القاضي؟ ومن يضمن جدية الحديث الرسمي عن الإصلاح بعد كل هذه الكوارث؟ يحتاج الناس لإجابات تحترم عقولهم وانسانيتهم.
حسم كانت مُحقة..كارثة جدة تتكرر