مقالات

الإله يراقبك – سلسلة السعي لصناعة مجتمع مثالي ج1

الكاتب/ة عبدالله الجريوي | تاريخ النشر:2023-09-30

حينما تنوي أن تخوض تجربة جديدة لأحد المطاعم أو المقاهي، فإنك في الغالب ستحدد المطعم أو المقهى من خلال البحث عبر ”قوقل ماب“ وستعتمد بشكل أساسي على التقييم وعدد والزوار وآرائهم، وكذلك تفعل حينما تبحث عن سلع في بعض المواقع الإلكترونية فإنك ستعتمد أيضًا على تقييم هذا المنتج..

فلك أن تتخيل أيها الإنسان أن تصبح أشبه بالسلعة أو متجر تُحدَّد قيمتُك من خلال التقييم الذي تعطى إياه من خلال الرقابة عليك من الجهات الحكومية!

”الإله الصيني“، أو ما يسمى ”نظام الرصيد الاجتماعي“ النظام الذي أعلنت عنه الصين في خطتها عام 2014 والذي بدأت بتطبيقه عام 2020، رغم أن هذا النظام الذي لا يزال قيد التطوير، وما زال يخيم عليه الغموض عن المدى الفعلي من إمكانية هذا البرنامج من التحكم والتقييم للمواطنين، فلا الحكومة الصينية أهلٌ للثقة، ولا التقارير التي لا نضمن مدى تدخل أصحاب رؤوس الأموال فيها والشركات التجارية المنافسة لتعزيز سرديتهم، أما نحن؛ فإننا ممن يحاولون أن يتقوا أحد الشرَّيْن لحماية خصوصياتهم المستباحة.

يهدف نظام الرصيد الاجتماعي -كما تعلن عنه الحكومة الصينية- إلى تعزيز الثقة داخل المجتمع الصيني، فهو يرتكز على محاولات لتنظيم صناعة الائتمان المالي وتمكين الجهات الحكومية من مشاركة البيانات؛ ما يوضح لها ما إن كان الفرد مخولاً على الاقتراض، وتهدف أيضًا إلى تعزيز القيم الأخلاقية المعترف بها من الدولة، كما تدعو للحث على السلوكيات الحسنة؛ ما يساهم في بناء مجتمع ملتزم بالقيم والأخلاق.

يعتمد هذا النظام على الذكاء الاصطناعي الذي ما إن يكُن بيد جهة حكومية أو ربحية إلا أفسدته، ويُخشى إن وصل هذا النظام إلى الشكل الذي تطمح إليه الحكومة الصينية حتى تبدأ معه حقبة جديدة من تنظيم الحياة البشرية -إذا كان لم يبدأ بعد- عبر سياسة نقاط التقييم الذي يخول للجهات الحكومية تقييم المواطن ما إن كان مواطنًا صالحًا يستحق المزيد من النقاط أو فاسدًا يستحق العقوبة من خلال خصم النقاط، فعلى سبيل المثال إذا كان الإنسان ينفق أمواله على ألعاب الفيديو فهو مواطن غير صالح، يخصم منه بعض النقاط وقد يحرم من الاقتراض أو الحصول على الوظيفة المناسبة أو غيرها من العقوبات، أما إن كان المواطن قد تبرع بجزء من ماله لجهة خيرية فهو صالح يعطَى المزيد من النقاط التي تخوله للحصول على الاقتراض لو أراد، أو تحفز الجهات التوظيفية من قبوله، مما يساهم بفرض مجتمع مثالي بمنظور الحكومة وأصحاب رؤوس الأموال وهم من يحددون المواطن الصالح من غيره!

من المضحك أن نسمح لسارقي الأموال أن يحددوا لنا كيف ندير أموالنا ونأتمنهم عليها، ونجعل الفاسد الظالم هو مَن يحدد لنا الأخلاقيات العامة ونأتمنه على الحفاظ عليها.

صراحةً إن هذا الخوف من استغلال الذكاء الاصطناعي ليس فقط من الحكومة الصينية، بل من جميع الحكومات وجميع تلك المراكز التابعة لشركات ربحية قد تبيع هذه البرامج إلى الحكومات المستبدة كالسعودية دون أي وسيلة للمحاسبة.

في الحقيقة إن السعودية قد بدأت بالفعل في مجال التحول الرقمي وما زالت تطور منه، وتُلزم فيه الجميع بالتعامل به من خلال تطبيقاتها الرسمية ”أبشر، توكلنا ... “ وغيرها من التطبيقات الملزمة على أي فرد مواطنًا كان أو مقيمًا بالتعامل من خلالها في الإجراءات الحكومية، والتي في الحقيقة هي وسيلة لانتهاك خصوصية الفرد.

تحاول السلطات السعودية دومًا تبرير تلك الإجراءات بالعبارات المستهلكة ”تسهيل الخدمات على المواطن، مكافحة الفساد والغش والتزوير وضمان النزاهة، السيطرة على الوضع الأمني وحماية المواطن“ ونراها تشرك مشاهير التواصل الاجتماعي في تلك الدعايات، كأن يقول أحدهم: ”استطعت استخراج الجواز خلال أسبوع، انتهيت من كافة معاملاتي وأنا في البيت، مقيم ينجز معاملاته القضائية وهو في بيته“ وغيرها من الأساليب..

المضحك، أنها دائمًا تستخدم تلك البروبغندا بالمقارنة والتشبيه بإحدى الدول الغربية التي لم تقُم بتلك الإجراءات، إن كان هناك تقدم فعلي فإنك لا تحتاج فيه أن تشبه نفسك بالآخر!

بعد جائحة كورونا؛ وفي مايو 2020 قامت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي ”سدايا“ بإطلاق تطبيق ”توكلنا“ الذي يهدف كما أُعلن عنه للحد من انتشار فايروس كورونا ولإصدار التصاريح الإلكترونية أثناء فترة منع التجول، وبعد رفع الحظر؛ أعلنت وزارة الداخلية في 1 أغسطس 2021 أنه يُشترط على الجميع إظهار تطبيق توكلنا عند الدخول إلى كافة الدوائر الحكومية والأسواق والمجمعات التجارية وأن تكون الحالة ”محصن“ أي قد تلقى جرعتين من تطعيم كورونا، أي لا يمكن لأحد التحرك بحُريّة أو أن يمارس حياته اليومية دون أن يكون قد تلقى جرعتين من اللقاح.

لم يتوقف الأمر عند هذا بل أُعلن في ديسمبر 2021 أن الجرعة الثالثة ستكون شرطًا لدخول الأسواق التجارية في فبراير 2022.

أما في حال قد أصبت بفايروس كورونا فإن تطبيق ”صحتي“ سيظهر موقعك للمسؤولين عن التطبيق، ولجميع المستخدمين القريبين من موقعك، هذا الإجبار من السلطة يأتي كعملية ضمن عمليات في هندسة المجتمع لما تراه السلطة صالحًا ونافعًا لهذا المجتمع أو ما يسميه البعض ”الحكومة تُربّي“ ضاربةً بعرض الحائط اختيارات الناس وأحاسيسهم بالأمان من ابتعادهم عن هذا اللقاح، أو قدرة الجميع من امتلاك أجهزة ذكية أو معرفة استخدامها.

إن محاولة حماية الناس من احتمالية إصابتهم بضرر عبر ضررٍ أكيد وانتهاك خصوصيتهم هو الذي يجب علينا مكافحته.

ليس هناك خطر وضرر يصيب الناس إلا هذا التغول في انتهاك خصوصياتهم وإجبارهم على نمط معين تراه السلطة هو النمط الصالح لهم.

***

أذكر في رمضان الماضي وخلال متابعتي لبرنامج يتحدث دائمًا عن تطور التكنولوجيا والتقنيات والذكاء الاصطناعي، كان المذيع -الذي أحسن الظن بأن تصوفه جعله لا يتصور مدى أخطارها والجوانب السلبية منها- دائمًا ما يُظهر انبهارَه بهذه الخدمات وهذا التطور حتى أنه قارن تواجد خدمة الدفع عن طريق الجوال مثل: ”Apple Pay“ في كل الأماكن التي تواجد بها، بينما لم تتواجد في أحد المطاعم المشهورة في الولايات المتحدة.

رغم أني شخصيًا أدعم تواجد كل الطرق الممكنة لعمليات الدفع من أجل التسهيل على الزبون، إلا أني أرفض إلزام كافة المتاجر بإجبار توفير جهاز نقاط البيع التابعة للشبكة السعودية للمدفوعات باسم مكافحة التستر، لأنها قد تكون وسيلة مستقبلًا بأن نُجبَر على التعامل معها على أنها هي الطريقة الوحيدة للدفع، فالإشكالية هنا لا تقتصر على قدرة السلطة من تتبع كل معاملاتنا فقط (من خلال العقد الملزم على التاجر بأنه يحق للبنك إطلاع السلطات الرسمية على كافة المعلومات والتفاصيل من خلال عمليات الدفع)، بل هي وسيلة للبنك الذي وفر جهاز نقاط البيع بمشاركه بنسبة من كل عملية تتم من خلالها، وهذا فيه إجحاف على التاجر الصغير الذي يتاجر ببضائع وسلع قد يربح فيها وقد يخسر، بينما البنك هو الوحيد الذي تزيد أرباحه دون الخسارة في ذلك، وقد تساهم بأن يرفع التاجر من أسعار بضائعه لموازنة ذلك.

قد يتفاجأ البعض لماذا بعض الدول المتقدمة في مجال المشاركة السياسية ما زالت تستخدم المعاملات الورقية، رغم أن التقنية سهلت بشكل كبير سرعة إنجازها.

في هذا الموقف هناك نقطتان مهمتان لا يجب إغفالهما:

- أولًا: رفض الغالبية السماح للحكومات بانتهاك خصوصياتهم.

- ثانيًا: قدرتك على التعامل مع التقنية لا تعني أن الجميع قادرٌ على ذلك، خاصة كبار السن الذين عاشوا عشرات السنوات دون تلك التقنية، أو مَن لا يملكون رفاهية استخدام التقنية أو المعرفة بها.

***

إن الإشكالية لا تقتصر على أن السلطة تُجبر الجميع على استخدام تطبيقاتها والتعامل فقط من خلالها، أو أنها تستخدم منصاتها لانتهاك خصوصية المستخدمين، بل إنها أيضًا تجعل نفسها هي الراعي والحامي عن أخلاقيات البشر وسلوكياتهم، منصِّبَةً نفسها كالآلهة فهي تحاسب المواطنين على خياراتهم الشخصية وتعبيرهم السلمي، حتى وإن فعلوا ذلك خارج حدود سيادتها وكأن ما قاموا به مشرع لا تجرمه الدولة المستضيفة، عن حفاظها على ”مثالية المواطن السعودي“ الذي يلتزم بامتثال أوامر الآلهة.

دائمًا ما تحاول السلطة أن توهم الشعب أنه بحاجة إليها لحماية دينه وأخلاقه وعاداته والآداب العامة من هؤلاء الذين يسعون لخدشها، فهي تحمي هذا المجتمع من المجتمع نفسه!

في ظل ما تعاني فيه السلطة من أزمة في الهوية والبحث عن امتداد لها في التاريخ، عبر البحث عن ما هو سعودي، وسعودة كل ما هو مرتبط بالجزيرة العربية الواقع تحت سيادتها، ومن هم السعوديون وكيف كانوا يأكلون ويشربون ويلبسون، قامت بتحديد هوية المواطن السعودي بل إنها أيضًا حددت ثقافة جميع الشعب، لتخبرنا كيف كان آباؤنا وأجدادنا يأكلون ويشربون ويتحدثون، وحددت دون المجتمع ما هو المجتمع السعودي وثقافته، وتحاسب كل من يخرج عن هذا النمط، ويوصف بأن ”ما قام به لا يمثل السعوديين“ ليس لأنه ارتكب جرمًا ما، ولكنه على اعتبار بأن ما قام به هو تهديد لتغيير شكل ثقافة المجتمع، بعيدًا عن الخوض في تفاصيل عمّن هو ”المجتمع“، هو أن جميع من قاموا بأي عمل يختلفون به عمّن يشاركونهم في هذا المجتمع؛ هم أيضًا من المجتمع واختلافهم لا يلغي كونهم جزءًا من هذا المجتمع المتنوع والمختلف والأهم من هذا كله أنه مجتمع غير مثالي.

 

*انتظروا الجزء الثاني من السلسلة، يوم الجمعة القادم.