كنت سأعانقه قبل السفر، أقبل رأسه ويده وأطلب مغفرته على سنوات غيابي، على سنوات غياب أحفاده.
خريف سنة 2018 كان استثنائيًا بالنسبة لي. أتسابق مع عقارب الزمن وأحاول إنقاذ كل لحظة لي ممكنة في الوطن قبل سقوط أوراقي، إمّا بإعتقال إو إخفاء قسري أو سجن. كان ذلك الخريف يترجم حالتي ووضعي تمامًا، رغم أن الوضع لا يقبل أنصاف الحلول، إمّا أبيض أو أسود، إمّا شتاء أو صيف، ولكن ذلك الخريف حين أصفه يرسم أدق تفاصيل حالتي.
الحل الوحيد الذي كان متاحًا بالنسبة لي هو الرحيل، حتى أرفع صوتي وأقول كلمة الحق ولا أعارض مبادئي وقيمي، التي كانت وما تزال مثل أجنحة الطير التي لا أستطير الطيران دونها، ولكن ذلك كان يمثل في نفس الوقت خسارة كبيرة، خسارة عائلتي، وظيفتي، وطني والأرض التي أحبها.
لاحقًا، استطعت الحصول على أوراق سفر لي وعائلتي، بعد أن تركت كل شيء من أجل النجاة، كل شيء بلا استثناء، تركت مسكني، أملاكي، وكل ذكرياتي. ولكنّ الحياة لم تقدم لي الكثير من الخيارات، إمّا السفر، أو البقاء وما يعنيه ذلك من إمكانية منعي من السفر بسبب بلاغ صدر ضدي، ما سيكون بداية نهايتي.
لم اكن أر أي نور في نهاية النفق حينها، ولكن كان من الضرورة أن أغادر وأسافر. أستطيع أن أقول الآن إن لحظة وصلي للمطار مع أطفالي إنها كانت مفترق طرق. إما أن أر النور وأستطيع السفر، أو أر الظلام وأغادر.
حين وقفت أمام موظف الجوازات، كنت هادئًا للغاية، جسدٌ بلا روح. إما النجاة أو الموت. إما حياة كريمة لإنسان بسيط اقحم في عملية فساد لا ناقة له فيها ولا جمل، سوى أنني كنت موظفًا كرس نفسه لمحاربة الفساد، وحتى أكون أكثر دقة، كنت أحارب الجرائم المالية من غسل الأموال وتمويل الإرهاب في وطني.
فرحتي لا توصف حين ختم موظف الجوازات تصاريح السفر لي ولعائلتي… أصبحت أر النور في نهاية النفق.
الحرية شعور جميل، وراحته لا توصل ولكن الطريق طويلة، حينها كنت أفكر في واجبي الأخلاقي تجاه كثير ممن في مثل حالتي، يحبون وطنهم ولكنهم مغيبون ومنسيون داخل زنانزين النظام، محرومون من أبسط حقوق الإنسان وغائبون كل البعد عن أحبابهم.
“أنت في أمان الآن” كلمة قالها لي ضابط الأمن الفيدرالي في كندا، وكانت كفيلة بأن أتنفس بعدها الصعداء.
ديسمبر 2018، رياح شتاء عاتية وسط عاصفة ثلجية تجتاح مونتريال، خرجنا من المطار متوجهين لمقر الغياب لأجل غير مسمى.