منذ بداية الأحداث في غزة في السابع من أكتوبر الحالي، ومع تدشين حرب الإبادة الجماعية التي يقوم بها نظام الفصل العنصري الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وعلى الرغم من الإنحياز العالمي الرسمي بالشكل الأوقح والأكثر تناقضاً ونفاقاً على الإطلاق لصالح الرواية الاسرائيلية، شهد العالم كله، شرقه وغربه، حركات تضامن واسعة من كل المكونات وباختلاف التنوعات، حركة تنادي بوقف الإبادة الجماعية وبالحل السلمي للقضية الفلسطينية بإنهاء الاحتلال، وتدين جرائمه الوحشية، تنشرها وتفضحها، تخرج وتنتفض ضدها في الشوارع والميادين، من الولايات المتحدة إلى فرنسا مرورا ببريطانيا وإسبانيا وصولا إلى كولومبيا، وغيرها الكثير من الدول التي شهدت تحركات تضامن شعبية وشبه رسمية وحتى رسمية مع أهلنا في غزة وفلسطين ضد همجية الاحتلال وجرائمه الوحشية، حركات تؤكد على وحدة النضال الإنساني، للخلاص من الاستعمار والاحتلال والفصل العنصري وأنظمة القمع والاستبداد، رغم الخلافات والاختلافات، كانت رسالة أمل في عالم يسوده العدل والسلام يوماً ما، رغم الألم الذي نعيشه في هذه الأيام المظلمة.
كانت هتافات "الحرية لفلسطين" "أوقفوا إطلاق النار الآن" والأعلام الفلسطينية حاضرة بقوة في كل ميدان، ما دفع بعض الحكومات المنحازة لاسرائيل لتجريمها، كما فعلت ألمانيا، وتحاول حكومات اليمين في دول أخرى، ورغم التهديد والوعيد لمن يخرج ويتضامن ويهتف ويرفع الأعلام، خرج مئات الآلاف يحملون أعلام فلسطين، والتي أصبحت اليوم، لا تمثل فلسطين وحدها، بقدر ما تمثل كل أولئك الذين يؤمنون بالسلام والعدالة في كل مكان في العالم، ويهتفون بالحرية والسلام لغزة وأهلها، كانت مشاهد مذهلة وباعثة على الأمل رغم الألم، ذلك أن الذين خرجوا لم يكونوا عرباً أو مسلمون فقط، فقد خرج مئات الآلاف من كل الأديان والاتجاهات في واشنطن ونيويورك وباريس ولندن وعواصم عديدة، خرج فيهم أولئك الذين رأوا مشاهد الإبادة والتهجير بغطاء دولي بغيض، فلم يقبلوا البقاء على السكون، فخرجوا وأوصلوا رسالتهم، لحكوماتهم ولشعوبهم، ولفلسطين، والعالم، رسالة رفض جرائم الإبادة والتطهير العرقي والتهجير والاحتلال والفصل العنصري، رسالة دعوة لسلام حقيقي وعادل، رسالة براءة من مواقف رسمية غربية تنحاز بشكل مطلق لنظام احتلال كشفت هذه الحرب كل أوراقه وأسقطت كل شعاراته وفضحت زيف إدعاءاته، فكانت رسالة أمل.. لنا، ولأهلنا في غزة، ولكل أولئك الذين يشعرون بالتهميش والإقصاء والعجز. فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة، التي لم يتوقف رئيسها منذ السابع من أكتوبر عن ترديد عبارته البائسة "لاسرائيل حق الدفاع عن النفس بشكل مطلق" ومطالبته إدارته تقديم كافة أشكال الدعم لنظام الاحتلال والفصل العنصري، وهاهي المفارقة، أو لنقل فضيحة التناقض، بايدن الذي عارض نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قبل سقوطه، يقف اليوم مع نظام فصل آخر، أكثر وحشية وبشاعة ودموية، ويذهب ويزور رئيس حكومته الفاشية نتنياهو ويعلن في حضرته عن دعمه المطلق لهم، فأي تناقض وأي عار هذا!
في نفس هذا البلد، أي أمريكا، التي انحازت إدارتها بشكل فاضح لحرب الإبادة الجماعية، خرج آلاف اليهود الأمريكيين وحلفاءهم من كل الأديان للشوارع، هتفوا بشجاعة ملهمة وسط قرع طبول حرب الإبادة والتهجير وضجيج الغطاء الدولي، هتفوا في الشوارع وأمام الكونغرس بل وداخله حين اعتصموا وأمام البيت الأبيض، "ليس بإسمنا" تُباد غزة، "ليس بإسمنا" التطهير العرقي والتهجير، وحتى اليوم، تخرج عشرات الاحتجاجات يومياً من مجموعات كثيرة، من اليهود والمسلمين والتقدميين وآخرين، وتتواصل الضغوط داخل الكونغرس وخارجه في مكاتب النواب لدفعهم للدعوة لوقف اطلاق النار في غزة، وفي إسبانيا رأينا موقفاً تاريخياً مُشرفاً من وزيرة الحقوق الاجتماعية، وفي دول كثيرة كما ذكرت خرجت مئات التظاهرات، والمقام لا يسع بالطبع لحصر كل الحركات المهمة التي حدثت في الغرب وحده، رغم انحياز معظم حكوماته للاحتلال ورغم تجريم بعضها للتعاطف مع غزة واعتباره معاداة للسامية، رغم أن كثير ممن يشاركون في هذه الأنشطة والفعاليات هم من اليهود، لكنه النفاق العالمي!
وفي العالم العربي، حيث يسود الاستبداد والقمع للأسف، وتُقهر الإرادة الشعبية، كانت المواقف العربية الرسمية عار لا يماثله عار وصفحة مخجلة في التاريخ العربي، ومن الصعب حقيقة تخيل كيف يمكن للأجيال القادمة أن تصدق، أن من يسمون أنفسهم زعماء وقادة عرب اتخذوا مواقف مثل هذه في هذه الأيام، وأنهم خذلوا أشقاءهم، في أقل الأحوال ألم يكونوا شركاء في دماءهم، فهذه الأنظمة التي تحرك جيوشها لقمع شعوبها حين تطالب بحقوقها، لم تكتف هذه المرة بالصمت على ما يجري على بعد مسافات بسيطة من قواعدها، لا بل تحركت عند الحدود، لتحميها من احتجاجات شعبية عندها، وفي مصر، اعتقل النظام الشباب الذين خرجوا تضامناً مع غزة، ورفضاً لمسرحية التفويض، ومع ذلك، في معظم البلدان العربية رأينا حراكاً واسعاً، حتى في الدول التي طبعت قديماً وحديثاً مع اسرائيل، وباتفاق المراقبين، فإن حركة بهذا الزخم والحجم والإجماع والحيوية لم تشهد مثلها المنطقة منذ الربيع العربي.
ووسط هذا الحضور العالمي والعربي، كانت السعودية حيث الأهمية السياسية والدينية والاقتصادية الغائب الأبرز، فالكل يتساءل ويستغرب غياباً ملحوظاً وغير مسبوق لأي شكل من أشكال الدعم، غياب أو تغييب، يطول الشرح والتفصيل، فلا السلطة اتخذت مواقف حقيقية يمكنها التأثير وهي تملك أدوات كثيرة للضغط والتأثير، ولا المجتمع خرج للشوارع تضامنا وتعبيرا عن الغضب كما فعل البحرينيون والقطريين والكويتيين والعمانيين، ولا الخطباء تحدثوا، ولا حتى فُتحت حملات الإغاثة الحكومية التي أصبحت المنصة الوحيدة التي يمكن للناس التبرع من خلالها للعمل الإنساني، بالرغم من أن حملات مساعدات واسعة بدأت في الجوار الخليجي، حيث الجسر الجوي الكويتي، وحملة التبرعات الإماراتية، وهنا مفارقة أخرى، فالإمارات رغم تطبيعها، خرجت منها بيانات تضامن شعبية وحملات تبرع ومساعدات علنية، ووقف للأنشطة الترفيهية، وفي السعودية، المشهد على النقيض من ذلك، رغم عدم اكتمال مشهد التطبيع العلني حتى الآن، ولعل الأحداث الأخيرة لا أقول قضت على مشروع التطبيع، فبحسب تصريحات مسؤولين من النظام السعودي لصحف غربية فالتطبيع مؤجل لا أكثر، لكن على الأقل أعادت الحياة لتعاطف سعت السلطة طيلة التسع سنوات الماضية بكل أدواتها لتجريفه، بداية بالاعتقالات السياسية مروراً بتصدير شخصيات منبوذة ومشبوهة تروج للتطبيع ختاماً باعتراف رأس النظام قبل أسابيع بأن السعودية تقترب من إسرائيل كل يوم، وهو نفسه الذي خرج بالأمس في انفصال وقح عن الواقع، ليطلق احتفال تدشين بطولة الرياضة الإلكترونية ويخطط لعقد قمة الاستثمار، في وقت تحتل فيه غزة المرتبة الأولى في الأجندة العالمية، لكنه الهروب من المسؤولية!
وفي السعودية نفسها، التي يتفاخر ذبابها وفاشييها بعظمتها المزعومة، تم استدعاء أصحاب حسابات رياضية تحدثوا عما يجري في غزة وجميعهم غردوا بعبارة موحدة، "اعتذر على ما بدر مني من نشر تغريدات لها علاقه بالأمور السياسية في رياضتنا الحبيبة" في مشهد عبثي يدل لأي درجة وصل القمع، ومن يعبر عن تعاطفه، يكتب بحذر وخجل شديد، وأي خروج عن النص يقابل بالقمع والإذلال.
وبذلك، كان البلد الذي يحتضن أهم المقدسات الإسلامية، هو البلد العربي الأقل تضامنا ودعماً وحضوراً في هذه الأحداث، رغم مواقفه السابقة على الأقل العلنية والمجال المحدود الذي كان متاحاً لشعبه للتعبير والتضامن، والذي أغلق تماماً مع وصول النظام الحالي للسلطات وحتى حملات التبرع والإغاثة، والتي لم تتاح حتى هذه اللحظة، فالمجال العام مغلق، والسلطات لم تستخدم حتى الحد الأدنى من الإمكانيات والأدوات الكثيرة التي يمكنها لو أرادت وكانت جادة أن تستخدمها للضغط والتأثير لوقف مخطط الإبادة الجماعية والتهجير في غزة، بل وللضغط نحو سلام عادل وحقيقي، لكن هذه السلطات اختارت تقزيم السعودية إلى صورة غير مسبوقة، فمن بداية الأحداث هناك غياب شبه تام للسعودية وحتى في محادثات التهدئة كان حضور مصر وقطر هو الأبرز، وهذا التقزيم حقيقة تنفي بكل وضوح شعارات العظمة الواهمة التي روجها هذا النظام ولا زال، فأي عظمة وأنت غائب عن أي دور فاعل، وأي عظمة وأنت تغيب شعبك وتمنعه من أي أشكال التضامن والدعم، وتجعله في مواقف محرجة ومخجلة ليس فقط أمام أشقاءه الخليجيين والعرب، بل وحتى الشعوب الحية التي انحازت حكوماتها للاحتلال وخرجت للشوارع والميادين، في الولايات المتحدة وفي فرنسا والسويد وغيرها وحتى كولومبيا التي طردت سفير الاحتلال، فهل هم أولى بالقضية من شعب السعودية؟
ولكن على الرغم من هذا الوضع المخجل والمؤسف، والحياد السلبي والامتناع الرسمي عن أي دور حقيقي للتأثير وقمع الناس ومنعهم حتى من الحد الأدنى من التفاعل، وهذا معيب ومؤلم بالتأكيد، لكن من المهم أن أشير إلى أصوات وجهات سعودية كثيرة خرجت لتتحدث بصوت الضمير المغيب، كان أولها حزب التجمع الوطني الذي أصدر عدة بيانات وتصريحات تعبر عن الموقف الغالبية الصامتة، أو لنقل المُصمتة، وقدم مساحة تضامن على موقع X شهدت أكثر من 40 ألف مشاركة وحضور، جدد فيها مواقفه، بحضور شخصيات سعودية وفلسطينية وتفاعل كبير.
كانت رسالة تعبير حقيقي عن المواقف الشعبية حين كان عنوانها "فلسطين في ضمير الشعب السعودي" وعكست اهتماماً وتعطشاً محلياً وعربياً واسعاً لتمثيل الصوت السعودي المغيب، وقد نجحت في ذلك، ونجح الحزب في تمثيل هذا الموقف، رغم كل حملات الهجوم والشيطنة التي استهدفته واستهدفت كل من يعبر عن مواقف حقيقية تعبر عن الأصوات المغيبة والمقموعة في الداخل السعودي، وفي الخارج كان لسعوديو المهجر دور ملحوظ أيضا، في المشاركات والتفاعل والعمل وحتى التنظيم والضغط..
فالقضية بالنسبة لهم ليست فقط فلسطين بوصفها القضية الأولى، إنما لشراكة هذه السلطة التي تعبث ببلدهم وتغيب شعبهم، وتتحالف مع الاحتلال لاختراقهم وقمعهم، فمثلما تحالف الاستبداد والاحتلال واحد، ينبغي أن يكون تحالف كل دعاة العدالة والحقوق، من كل البلدان والأديان والتوجهات، واحد، ولعل الحركة الواسعة التي رأينها في كل مكان، تضامنا مع غزة وفلسطين ورفضا للاحتلال والإبادة، فرصة للبناء عليها لتأثير أوسع وأكبر من أجل هذه القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة.
أختم، بالعزاء لغزة وأهلها، وبالاعتذار عن المواقف العربية المخزية، والتي لا تمثل بكل تأكيد الشعوب العربية، وعلى أمل أن يكون المقال القادم تحليلاً للدور العربي المؤثر الذي أسهم في وقف الإبادة في غزة!