في القطار، عائدٌ إلى شقتي وبرفقتي صديق الغربة، ولا ينجيك من وحشة الغربة إلا الأصدقاء. كنا قد قضينا يوماً كاملاً في الهتاف والاعتراض على الهمجية الاسرائيلية ضد اخواننا في غزة. كان يوماً طويلًا منهكًا ، وأيام أهل غزة أطول وأنهك. فيما كنا نتبادل الحديث عن هذا اليوم العظيم، دخل شابّ لطيف تملؤه الوشوم وصديقتُه المتلثمة بالكوفية الفلسطينية. تبادلنا حديثاً قصيراً فأخبرانا أنهما قد أتيا من كنتاكي في رحلة تستغرق عشر ساعات بالسيارة وفي الصباح الباكر مثلها إياباً. ودعونا بعد دقائق بلطفٍ وافترقنا.
ما الذي يدفعهم للسفر والمشقة ليناصروا مظلوماً يبعد عنهم آلاف الأميال، لا يتحدث لغتهم ولا يدين بدينهم. لا يجمعهم بهذا المظلوم من الروابط شيئاً؟ ردّ على تساؤلي صديقي بابتسامة:" إنّه النبل يا أحمد. النبل الذي يوقظك من نومك ويقطع شهيتك ويحثك على أن تبذل مالك ووقتك وجهدك لتنصر مظلوماً لا تعرفه! النبل يا أحمد لا يعرف لوناً ولا يعرف لغةً ولا يعرف ديناً. النبل حثّ المطعم بن عديّ أن يخاطر بجاهه وحياته وولده دفاعاً عن الرسول الكريم."
وإذا ذكر النبل والشهامة يُذكر محمد البجادي. في 2009 ذهب محمد البجادي إلى اعتصام أهالي المعتقلين السياسيين عند وزارة الداخلية وليس له أي مُعتقل! ذهب ليعتصم وهو يعلم أنه قد لا يبيت تلك الليلة في فراشه! عند انعدام الخطر يكثر المناصرون وعندما يعظم خطر مناصرة المظلوم يقلّ الناصر. لكن البجادي لا يعرف إلا معادلة واحدة: المظلوم يُنصر مهما كان الثمن!! يسأل أحد العساكر محمد البجادي: " هل لك معتقل؟" فيردّ متحديّاً: "كل المعتقلين أهلي" أكتب عن البجادي وتجري في جسمي قشعريرة ذلك الموقف!
دفع البجادي ثمناً باهظًا جراء نبله ووقوفه مع المظلوم. يقضي محمد حكماً جائراً بالسجن وقت كتابتي هذا المقال. هكذا يجازي وطني النبل ومكارم الأخلاق.
لم يجد أبو تركي شبيهًا له يقف موقفه ويدافع عنه، ولا غرابة فالاستبداد قد كبّل الناس وأفسد أخلاقهم. في أجواء الحرية والديموقراطية تحسن أخلاق الناس ويظهر فيهم النبل والشهامة والدفاع عن المظلومين ولو لم تربطهم لغة أو قرابة أو دين!
كونوا أحراراً لتكونوا نبلاء.