حديث النضال.. عبدالعزيز السنيد
نبدأ حديث النضال ..عبدالعزيز السنيد ..رائد الحركة العمالية..ورئيس لجنة العمال لفترات طويلة ..
رحل العام الماضي 2012، وخبر وفاته احتل زاويا يسيره في بعض الصحف ... رحل بعد أن ملأ المنطقة الشرقية صخبا حقوقيا .. وبح صوته إصلاحا ..
عبدالعزيز السنيد .. كان يقول "لا" للأمريكي، حين كان يشرب الماء البارد ويحرم منه العامل السعودي.
عبدالعزيز السنيد .. كان يقول للأمريكي "لا"، حين كان يحرم السعودي أن يركب حافلة بها أمريكي ..! قال "لا"، حين طرد الطريقي من الحافلة لأنه سعودي.
عبدالعزيز السنيد .. قال "لا"، حين كان يسكن العامل السعودي العشش والبركسات .. وينعم الأمريكي بالحدائق والبيوت الفخمة ..
هذا الوطني الشامخ .. ينحدر من عائلة نجدية وأم عراقية .. مؤثر .. لا يمل ولا يكل .. عاش في العراق وقدم إلى السعودية .. كان يزرع للوطن ولا يحصد.
كان وراء كل حراك .. لجنة العمال ..جريدة الفجر..جبهة التحرر الوطني..أنه شعلة .. عراب النضال .. سجن .. أعتقل ،، يخرج يبتسم ويبدأ للعمل من جديد.
حين نُفي إلى بيروت بعد إطلاق سراحه مع رفاقه أعضاء لجنة العمال .. بدأ العمل الصحفي .. وأرتفع سقف المطالب إلى إصلاحات سياسية في الدولة ..
أصدر الملك خالد عفوا عاما عن جميع المنفيين والسجناء الإصلاحيين.. عاد إلى البلد ، وما لبث أن اتهم بتهمة توزيع منشورات شيوعية .. وقبض عليه.
أُطلق سراح عبدالعزيز السنيد .. بعد أن تم اكتشاف أن موزع هذه المنشورات أحد عملاء أرامكو .. سوداني اسمه "حافظ البارودي" ..
وتم ذلك بمساعدة مدير مطار الظهران "محمد عور" فلسطيني، كانت المنشورات تشن حملة على أرامكو وتشتم الأمريكان، للإيهام بأنها من قبل لجنة العمال.
الذين ساعدوا في فضح هذه التهمة والتلفيق .. ناصر السعيد وصالح الزيد .. كانا في مطار الظهران وشاهدا البارودي قادم من بيروت بشنطة لم تفتش.
رحل عبدالعزيز السنيد .. بتأريخ طويل ..لم يدونه، لم يرد أن يصنع من نفسه بطلا وهو كذلك..انكفأ يكتب في جريدة اليوم ..يتأمل الحاضر يلوكه الألم.
كان يحضر بعض ندوات النادي الأدبي في الشرقية .. ومهرجان الجنادرية .. ربما قابله البعض منا .. يتخطاه .. في كل تجاعيد وجهه حكاية لا نعرفها..
* عبدالعزيز المعمر:
أيها المناضلون .. أيها الأحرار ..يا ذاكرة الوطن .. يا نسيان .. أيها الكارهون.. أيها العاشقون .. أيها المارون .. إنه عبدالعزيز المعمر..
يقول الشاعر أوفيد: "يكشف الفراغ أي نوع من الناس نحن"،، كان المعمر من أوائل
الراحلين .. وقد أحدث فراغاً ،، بقي أن نسأل أي نوع من الناس نحن!
تذكرني قصة عبدالعزيز المعمر .. بقصة عائلة أوفقير (المغربية) .. فمن العز والقرب من الملك .. إلى السجن .. إلى النفي .. إلى المرض والعزلة .. والموت.
عام 1954 بعد الإضراب ..اجتمع عبدالعزيز المعمر وإسحاق الشيخ يعقوب ومجموعة من العمال في فندق مطارق الظهران لإعلان "جبهة الإصلاح الوطني"..
وحاول الملك سعود أن يخفف من ارتفاع سقف مطالب هؤلاء العمال التي بدأت تكبر ... وتنحى مناحي سياسية صرفة .. فأمر بتشكيل مكتب للعمل والعمال ..
وأسند رئاسة مكتب العمل إلى "عبدالعزيز المعمر"، فكان الرجل المناسب في المكان المناسب، فرح العمال .. وغضبت آرامكو .. وبدأت رحلة الخصومة ..
كانت مصلحة العمل والعمال في شخص عبدالعزيز المعمر تمثل شوكة في خاصرة المتنفذين في آرامكو .. وعلى رأسهم رئيس الشركة الأمريكي "وليقر"..
كانت أرامكو تكيد لعبدالعزيز المعمر .. ولمكتب العمل .. فألصقت به تهمة توزيع منشورات تحمل عنوان "صرخة من أعماق الكعبة" تنتقد أوضاع السعودية.
أحدثت هذه المنشورات ضجة كبيرة .. وكانت مزعجة .. وتلقفتها صحف عربية كثيرة ... مما أثار غضب الدولة .. فألقت القبض على المعمر وسليمان القاضي ..
ابتهجت أرامكو، وصدر الأمر الملكي بتعيين العطيشان رئيسا لمصلحة العمل والعمال ..وقد كان منبوذا من العمال .. صاحب مقولة "لجنتكم في اذنبي".
نُقل الاثنان إلى الرياض .. أودعوا السجن .. وساد الحزن مكتب العمل والعمال .. كانوا يمكرون وعينهم على النفط .. والأحرار يخلصون وعينهم على الوطن.
تحرك الناس داخل الوطن وخارجه.. حبس رجل شريف مثل المعمر .. وكان عطر السمعة ، خدوما .. وطنيا إلى النخاع .. الجميع استنكر اعتقاله وسجنه ..
في الخارج تحرك عبدالله القصيمي ويوسف الشيخ .. وتحدثوا مع إميل البساتني المليونير اللبناني .. وطلبوا منه المساعدة .. أخذهم إلى كمال جنبلاط.
ذهبوا جميعا إلى السفير السعودي بلبنان .. وطلبوا وساطته .. ومع التحركات هنا .. وهناك .. عرف المسؤلون قيمة المعمر وحجمه .. فأُطلق سراحه ..
يقول برتراند راسل: "مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون من أنفسهم أشد الثقة دائما، أما الحكماء فتملأهم الشكوك"، المعمر كسر هذه النظرية.
تخيلوا رجل يدخل السجن ويخرج منه .. يعتقل ثم يعود .. وحين يتحدث مع أصحابه يقول لهم: علينا أن نحرك حاضرنا ولا ندعه يركن فريسة للعنة الماضي.
عبدالعزيز المعمر كان واثقا من نفسه .. كان الوطن في عينه .. يخاف عليه .. لا يقول للناس هذا .. كان الناس يشعرون به، لذلك قربه الملك سعود منه.
عبدالعزيز المعمر يدخل بلاط الملك سعود ..ويصبح مستشاراً له .. كانت الآمال كلما انزوت .. عادت وبشكل أكبر .. كانت الأحلام فعلا تكبر .. تكبر جدا.
بعد استقالة الأمير فيصل من رئاسة الوزراء ..جاء مهندس التشكيلة الوزارية الجديدة المعمر بمجلس أطلق عليه الوزارة الوطنية أو وزارة الشباب.
تضمنت الأمير طلال بن عبدالعزيز للمالية، الأمير عبدالمحسن للداخلية، الأمير محمد بن سعود للدفاع ..وزارة جديدة للنفط من نصيب عبدالله الطريقي.
بدأ موضوع "الحكم الدستوري" يُطرح بشكل جدي .. كان يؤيده مجموعة كبيرة من الأمراء والوزراء .. نواف، بدر، فواز، عبدالمحسن، ماجد..
بعد أن تسلم وزارة النفط، صرح الطريقي بأن المملكة "سوف تتخذ خطوة إلى الأمام في إقامة دستور للبلاد وستصبح ملكية دستورية"، فغضب (الأمير فيصل).
عام 1960 رُفعت الرقابة عن الصحف المحلية وراحت الأقلام تكتب بكل حرية وتنتقد .. وتطالب بضرورة توزيع المشاركة السياسية وإصلاح الأوضاع الاجتماعية.
كنا قريبين .. قريبين جدا .. لدرجة أن راديو مكة في ديسمبر عام 1960 أعلن بأن الملك سعود سلم نسخة من مشروع الدستور إلى مجلس الوزراء.
شيء ما كان يحدث .. لن أتحدث عنه .. لا علينا.. المهم بعد ثلاثة أيام نفي مدير إذاعة مكة صحة الخبر، دعونا نطوي الصفحة، ونرجع إلى موضوعنا.
عبدالعزيز المعمر كان يحضر مجلس الوزراء بدون صفة تخوله للحضور .. واعترض على هذا طلال بن عبدالعزيز .. هو والطريقي اعترضا على حضوره الجلسات.
بدأ الخلاف يدب في المجموعة..يقال إن طلال بن عبدالعزيز كان يرغب في أن يتصرف كرئيس لمجلس الوزراء ..المهم الخلافات كبرت، فقدم استقالته هو وأخوه عبدالمحسن.
أشياء كثيرة كانت تحدث .. موضوع الأمراء الأحرار .. ومصر .. والناصريون .. كلها سوف أتخطاها ،، لأركز الحديث عن عبدالعزيز المعمر.
وصلت رسالة من القاهرة قيل إن محمد سرور الصبان أرسلها إلى الملك سعود، يقول فيها إن عبدالعزيز المعمر وفيصل الحجيلان لهما علاقات شيوعية.
أُعطيت هذه الرسالة إلى (تري ديوس) الممثل لشركة آرامكو في الكونغرس، وكان ذلك عام 1961، وفي فندق اليمامة قابل "تري ديوس" عبدالعزيز المعمر.
في الاجتماع قال "تري": قال لي محمد سرور الصبان .. إنك شيوعي ،، فهل أنت شيوعي؟ وإذا كنت لست شيوعيا، فأصدر تصريحا تنفي التهمة وتستنكرها ..
كان المعمر .. يحتقر مثل هذه الأساليب .. ولسان حاله يقول (الدهر دهر..عجيب فيه الوليد يشيب ..العير فوق الثريا .. وفى الهواء الأريب).
قال له ابن معمر .. بلغة الأحرار: "أنا لست ملزما بأن أبرىء نفسي أمامك .. وما هي صفتك حتى توقفني موقف المتهم وتطلب مني الدفاع" وتركه.
بعدها قام السفير الأمريكي بالاتصال بالملك سعود وحذره من ابن معمر .. لأنه شيوعي!
أُبعد عبدالعزيز المعمر من البلاط الملكي .. وعين سفيراً في سويسرا .. طلب البعض من طلال والطريقي التدخل، لثني قرار إبعاد المعمر .. فرفضا.
استمرت الوزارة بالعمل بعد سفر المعمر .. لكن حدثت خلافات في الآراء .. وتفرقت المجموعة، منهم من استقال .. ومنهم من قرر الخروج من الوطن ..
مات الملك سعود ومات المشروع، ذلك الذي نبكي عليه الآن..كثيرون دفعوا الثمن باهظا لأجله..كاد أن يولد ولكنه قدر الله..ربما لنتحدث عنه هذه الأيام.
حين تولي الملك فيصل رئاسة الوزراء في عام 1963، أصدر قرارا بفصل ابن معمر من وظيفته كسفير للملكة في سويسرا والعودة فورا للوطن.
جاءه السفير المصري في سويسرا وحذره من العودة للملكة، وقال له: إن ذهابك للسعودية فيه خطر عليك.. فتفضل وأقم بالقاهرة معززا مكرما ..
ولأن عبدالعزيز المعمر لا يعرف وطنا في قلبه غير السعودية .. قدم ما يمليه عليه قلبه وضميره .. رفض العرض ،، وقال لم أقم بعمل أخشى من عاقبته..وعاد.
عبدالعزيز المعمر لم يكن شخصيا عاديا .. بمجرد عودته للرياض .. تحول مجلسه إلى مزار دائم لأصدقائه .. وأحبابه .. للناس والعمال والرفاق ...
فُسرت هذه الزيارات والتجمعات بأنها تحدي..وخصوم" المعمر" كثير، وبدأ الوشاة يفترون عليه الكذب..وكان يقول للناس لا أقبل من أحد يساومني على وطنيتي.
جاء الأمر باعتقال عبدالعزيز المعمر .. وأودع سجن العبيد .. هكذا.. السجن .. السجن للوطني عبدالعزيز ..
من رئاسة مكتب العمل .. إلى بلاط الملك مستشارا .. إلى سفيرا يمثل الوطن .. إلى سجن العبيد .. بل إلى قبو سجن العبيد المنسي ..
كان السجناء يعرفون أن من يدخل قبو هذا السجن .. يراد له الموت البطيء .. يأتيه كيفما يشاء .. ويقضي بها هذا الوطني 12 سنة من عمره مدفونا الظلام.
على قدميها تجر أحزانها .. وبؤسها ..وخوفها ..تجر الأمل ..والنور ..جاءت زوجته تطلب الإفراج عنه، فيقال لها: "انسي أن لك زوجا اسمه عبدالعزيز".
أريدكم أن تتأملوها .. سنة .. سنتين .. ثلاث .. أربع .. عشر .. أثنا عشر سنة،، في قبو سجن مظلم.. كان كل تراب الوطن يصرخ "بأي ذنب" ..؟
حين نقل عبدالعزيز ابن معمر إلى السجن معصوب العينين .. مكبل اليدين .. كأعتى المجرمين ،، كأنه لم يكن عزيزا بالأمس ..
إسحاق الشيخ يعقوب رفيقه .. كتب عنه كثيرا .. كلما تذكره بكى ..
كان الجميع يائسا من خروجه من السجن .. وكلما سألوا عنه .. قالوا في القبو .. وكان يعني ذلك .. أنه عبدالعزيز المعمر .. تأـريخ وانتهى..
شاء الله أن يبقى لمعمر عمر ليخرج من السجن، فبعد اغتيال الملك فيصل .. جاء السجان .. وكان كل من في السجن يحب عبدالعزيز .. من الذي لا يحبه؟
يحكي رفيقه إسحاق يقول .. جاءه السجان .. يصرخ ..عبدالعزيز .. عبدالعزيز ليتأكد هل هو حي أم ميت .. ويأتيه صوت ضعيف وش تريد وش تريد ..
قال قتل فيصل .. واستلم خالد.. يصرخ .. أبشر بالفرج .. أبشر بالفرج .. وبالفعل جاءه الفرج .. وخرج من السجن ضعيفا مريضا .. لا يشكو لأحد ..
خرج ضعيف البصر..كان يهذي.. يتعلم المشي ..عانقه من بقي من رفاقه،، كانت تنقبض قلوبهم .. ذهبت الكارزميا .. القوة .. الحياة ..خرج ميتا إلا قليلا.
يقول لصاحبه إسحاق .. سلطوا على جبهتي موجات صدمات أنوار ساطعة ... عطف عليه الملك خالد، أرسله لأسبانيا لعلاج عينيه .. لم يُجد نفعا ،،
عاش بعد ذلك منزويا .. معزولاً عن المجتمع .. يزوره القليل من أصدقائه المقربين ..الذين يعرفون من هو المعمر .. إلى أن توفي بالخبر 1984.
عبدالعزيز المعمر لم يمت .. هو معنا .. ذكره .. جرحه .. ظلمه .. تضحياته .. أنه زيت هذه النواقيس التي تضيء الوطن .. عليك من الله كل سلام ،،
لا أستطيع أن أقول هنا نطوي صفحته .لكني أقول: هنا نفتح صفحته .. نبقيها مفتوحة لتقرأها الأجيال .. حتى ولو تحدثنا عن غيره .. ستبقى صفحته مفتوحة..(يتبع)..
المصدر: مجلة العصر
23 فبراير 2013