الاحتساب في الأمور العادية، لا يكون دون مصابرة الإنسان على الضنى والأسى، والفارس من فرسان الجهاد المدني السلمي فرد أعزل؛ أمام قوة الدولة وجبروتها وفوق ذلك، لا يجد على الخير أعوانًا يشدون ظهره ولا عصيبة يركن إليها، عندما يصبح الخوف في مدينة النهب والقمع والصمت “سيد الأخلاق”.
وهو رغم خذلان الإخوان، لا يقول قولة عمرو بن معدي:
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم
نطقت ولكن الرماح أجرت
بل يقول قولة أويس: “وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه”.
لأنه يصابر معلنًا سخريته بالأوباش وخفافيش الظلام والقتاتين والمرجفين، بل والمثبطين والخوارين الصالحين الذين يخدمون الاستبداد وهم لا يشعرون.
والمجاهد السلمي عبر الكلمة السياسية وسائر الوسائل السلمية، كالبيان والمظاهرة والاعتصام، والإضراب عن العمل، يصابر على أنواع الابتلاء:
أولها: أنه يواصل مصابرته وهو يتوقع مداهمة منزله من زوار الفجر كل حين، فكلما طرق باب بيته، جهز نفسه متوقعًا القبض عليه.
وأشقها: قد يصابر على ابتلاء غيابة السجون، وما فيها من تضييق وتعذيب نفسي وجسدي، ويصابر على فظائع الإهانة والتحقير، ويصابر على جلسات التحقيق شهورًا ويصابر حين يقضي في السجن سنين، ويصابر على تلك الزنزانة الصغيرة (الانفرادي)، ويقاسي فيها ألوان العذاب، وهو رغم الضيق مُبتسم صابر يرجو أن ينجح في الاختبار، وأمام عينيه لافتة: “ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم”.
ولافتة النضال:
وكنت إذا أصابتني السهام
تكسرت النصال على النصال
قد يتعجب كثير من الناس، كيف تكون كلمة أو مظاهر عزلاء ساكنة، أعلى منزلة من رصاصة شهباء أو غزوة مدوية، ولكن العجب يتبدد عندما يقرنون الأسباب بالنتائج، والوسائل بالغايات، ومن يتابع حركة التغيير في الدول، ويتأمل أثر الكلمات في إنتاج المواقف، وأثر المواقف في خلود الكلمات يدرك السبب. مئات من الشخصيات النبيلة هدت بكلماتها طغيان التجبر والقهر، حتى خرّ الباطل أمام قوة الحق، وهذه المواقف لا بد أن يثمر ولو تأخر الامر كما قال تعالى: “إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد”.
لقد هاجم الطاغية الكلمة وأصحابها، كما يهاجم وحشًا كاسرًا، أو جيشًا غازيًا، لما لها من قوة، ولذلك اعترف أكثر من طاغية، بأنه لا يحس بتفرده في الحكم، ما دام المصلح الفلاني، لذلك برر أحد سلاطين الجور قتله أحد المصلحين فقال ما معناه “كيف لا أقتله وهو ينقض بالقول كل ما فتلت من فعل”.
وبقي موقف المصلح، لأن كلمة الحق المكتوبة بالدم ليست نصًا مخطوطًا بماء الذهب في مكتبة التراث، إنما هي روح شفافة يمنحها الصبر والجهاد والاستشهاد هيئة طير محلق في السماء.
وبذلك يصبح الفرد الأعزل، بطلًا شاكي السلاح، يرسم بدمه وصبره طريق خلاص الأمة، ويضع لافتة كتب عليها: “هذا طريق الكرامة”.
وأخيرًا إن الجهاد السلمي، هي الكلمة الهادئة والمظاهرة المنسابة، تهزم الدبابة المجنزرة المصفحة، والمدفع الذي يدك المدن، إنها الكلمة الهادئة المجنحة بالموقف الثابت.