مقالات

المثقف وقمع السلطة للشعب

الكاتب/ة ناصر العربي | تاريخ النشر:2021-06-16

في المخيلة الاجتماعية المشكّلة عن صورة المثقف، يكون هو الشخص الواعي والمطلع على الأحداث السياسية والاجتماعية ولديه القدرة على تفسيرها وتحليلها والدخول في النقاش العام حول هذه القضايا. في كافة الاتجاهات الفكرية، بكل تنوعاتها، مثقفون يمثلون قيم هذا الاتجاه ويدافعون ويبشرون به، وليس بالضرورة أن يكون دور المثقف محصورًا في التحدث باسم قيم الحركة أو التيار، لكن هو في المخيلة الاجتماعية الممثل لهذا التيار والاتجاه الفكري. ومن أهم الأدوار التي يقوم بها المثقف هو الدفاع عن قيم الاتجاه الفكري الذي ينتمي له، وليس هذا فحسب، بل في محاولة الدفاع عن الأشخاص المشابهين له الذين تقمعهم السلطة، يحاول المثقف أن يكون وكيل الدفاع والمحامي لهم والمطالب بحقوقهم. هذا ليس خيالًا، هذا يحدث حتى في مجتمعاتنا المقموعة لكن بأشكال مختلفة، ليس بالضرورة بالتصريح الصريح، لكن بالإشارة العامة وإظهار التضامن.

كما هو الحال مع الأستاذ عقل الباهلي، الدكتور عبدالعزيز الدخيل والأستاذ سلطان العجمي، حين كتبوا في “تويتر” تعزية في حق المرحوم الدكتور أبو بلال عبدالله الحامد، عراب الإصلاح السعودي. اعتقل هؤلاء المثقفون بسبب إعلان التضامن والتعاطف مع أبو بلال والقيام بواجب أخلاقي وديني وهو كتابة سطرين حول أبو بلال والدعاء بالرحمة له. لم تتحمل السلطة هذا الثناء والتضامن، لهذا تم اعتقالهم فورًا وإلى هذا اليوم لا يزال الباهلي والدخيل والعجمي في المعتقل.

نحن نعيش في دولة قمعية مستبدة تسلطية، أرعبت المجتمع والمثقفين على حد سواء، فالقمع يطال الجميع، وأكثر الناس إحساسًا بهذا القمع هم من لهم حظ من المعرفة والثقافة والاهتمام بالقضايا الفكرية والشأن العام. في المجتمع السعودي شريحةٌ واسعة من المثقفين من كافة الأطياف الفكرية المتنوعة من أقصى اليمين المحافظ إلى اليسار الراديكالي، لكن هذه الفئات صامتة، لأنها تعلم أن المشاركة في المجال العام هو طريقٌ إلى السجن. لهذا ينزوي المثقف ويعتزل المشهد بهدوء ويعكف على عزلته كمحاولة استثمار الوقت في ما هو مفيد وأمن له، بدل أن يورط نفسه في مواجهة مع السلطة، وقد يصاب البعض بحالة من الاكتئاب نتيجة هذا المناخ المسموم.

وهؤلاء المثقفون نحييهم لأنهم لم يشاركوا في التبرير لقمع السلطة ولسياسات السلطة في خنق المجتمع وكبت الحريات وفتح المعتقلات. نعلم أن هذا ليس أفضل ما يمكن أن يكون عليه المثقف في المجتمع المقموع، فنحن في حاجة إلى المثقف العضوي على حد تعبير غرامشي، ذلك المثقف الذي يمثل رأس الحربة في وجه الاستبداد، كما هو الحال مع أبو بلال والدكتور القحطاني والمحامي وليد أبو الخير وعبدالله المالكي وأعضاء حسم و مثل الكاتب المرحوم صالح الشيحي والصحفي جمال خاشقجي رحمهم الله، والأستاذ عقل الباهلي، الدكتور عبدالعزيز الدخيل والأستاذ سلطان العجمي وكافة الشرفاء ممن لا تسمح به هذا المساحة لذكرهم وغيرهم من الشجعان الأنقياء.

أما الشريحة الفاسدة من المثقفين، فهم أولئك الذين يبررون قمع السلطة ويساهمون في جعل القمع صالحًا وعلاجًا لا يجب الاعتراض عليه، بل إن هؤلاء الطغمة من الفاسدين أخلاقيًّا يتهافتون إلى إرضاء الحاكم عبر تزيين قبحه ووصفه بالعظمة والريادة، وهم بهذا يوطنون الاستبداد في نفوس الناس ويجعلونه أمرًا طبيعيًّا. وإن هذه الشريحة التي تحاول أن تكون مَلَكية أكثر من الملك هي مثل السرطان في الجسد، يُنهك المجتمع ويزيده بلاء على بلاء، ولا أحد يستطيع مواجهة هذه الشريحة من الداخل لأنها تحولت مع الوقت إلى لسان السلطة غير الرسمي. بل إن هذه الشريحة تتمادى في إسراف المديح للسلطة خوافًا على نفسها من القمع، لهذا هي تجدد الإسفاف التطبيلي كواجب يومي.

وبهذا ينزل المثقف المطبل إلى وحل لا يمكنه الخروج منه، فهو قد تلوث قلمه ولسانه لتبرير القمع وشرعتنه بأنه حق للحاكم، وتزييف الواقع أمام العالم. وهذا ينطبق على كافة المثقفين بكل اتجاهاتهم ممن تحولوا إلى “مثقفي السلطان” فهم يدخلون الحروب بالوكالة عنه حسب ما تقتضي المرحلة. ولنا أن نتأكد من هذا الوصف بمراجعة أدوار المثقفين السعوديين عن الأزمات التي أحدثها محمد بن سلمان، حرب اليمن، حصار قطر، الحرب الوهمية على الفساد، قمع وسجن العديد من المثقفين والشخصيات الفاعلة في المجال العام مثل الاقتصاديين والحقوقيين والدعاة والناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة، وغيرهم. بالنظر إلى دورهم خلال هذه الأزمات نجد أنهم أضحوا وكالة علاقات عامة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وهو تبرير قمع السلطة بوصفه حق من حقوقها، وأن الأمير على حق والمجتمع على خطأ.

إن هؤلاء المثقفين هم وباء وربما قدر أن تظهر هذه الطفيليات في المجتمعات التي يحكمها الاستبداد، لكن هي مرحلة، ويعلم الجميع أن هؤلاء ما هم إلا ثمرة من الثمار المسمومة لحصاد الاستبداد. والمجتمعات ترتقي بالمثقف الأخلاقي المتضامن والمساند للحق والعدل مع الشعب. أما من يساند الاستبداد فهو يضع نفسه في خانة قاتمة ومظلمة ولن يذكره التاريخ إلا بأنه كان نصيرًا للاستبداد ولم يكن مثقفًا حقيقيًّا يدافع عن شعبه وأهله وعن قيم الحرية والعدالة والكرامة والعيش الكريم. وهؤلاء المثقفين سوف يصبحون مع الوقت منبوذين من المجتمع فهم يبررون كل أفعال السلطة القبيحة التي تفقر وتهين شريحة واسعة من أفراد المجتمع.

ومع هذا فإن الاستبداد لا أمان له، فالأنظمة المستبدة ليس لها قاع، لهذا هي تطلب المستحيل، وقد يصل بعض مثقفين السلطة إلى مرحلة يجدون أنفسهم في السجن لأنه ربما لم يشارك في مهرجان القمع وتبريره بما يكفي، كأن لسان السلطة يقول له: يمكن أن تفعل أكثر من هذا. ومن المفارقات أن أحدهم في يوم ما يروج أن السجون السعودية هي فنادق خمسة نجوم انتهى به الحال في السجن لأنه لم يطبل بالقدر الكافي، أو تجاوز الهامش المتاح له.

رحم الله أبو بلال وصالح الشيحي وجمال خاشقجي وخالد النزهة وناصر السعيد وغيرهم من المثقفين المتضامنين مع مجتمعاتهم ضد تغول السلطة.