مقالات

“صنم الوعي”

الكاتب/ة حمود هلال | تاريخ النشر:2021-07-14

يتعرض من لا يرفع علم المقاومة السلمية في الشوارع ويحرض على الخروج إليها من النشطاء في قضايا حقوق الإنسان والمعارضين السعوديين، لسيل من الانتقادات المتكررة، والمنتقدون يطلقون على ما يفعله هؤلاء عبادة “صنم الوعي” بدعوى أنهم مهتمون برفع منسوب الوعي لدى الشعب في مفاهيم معيّنة، مثل أهمية حرية التعبير، والتعريف بالظلم وفضحه، وغيره من المفاهيم أو المطالبات التي تحفز الشارع على الاهتمام بمعرفة حقوقه، وبدعوى أنّهم يستخدمون أدوات أقل فاعلية من الخروج إلى الشارع.

ولا شك أن في هذه الانتقادات قصورٌ في النظر، واستعجال على قطف الثمار، وسوء فهم للمرحلة وأدواتها المناسبة وكيفية التعامل معها، وجهل في مرحلة البناء الثوري وأهميّته، ومراحل كثيرة يتجاوزها كل من يدعو إلى الخروج في هذا الوقت.

أولًا، يدفع الكثير من المنتقدين للإيمان بضرورة التغيير والتحرّك بالميدان، هو إيمان عميق وقوي بهذه القضية، واستعداد كامل وواضح لبذل التضحيات في سبيل تحقيق هذه الغايات والأهداف وخدمتها ولو أدّى ذلك لأذيته عن طريق اعتقاله وغير ذلك، والإنسان إذا قرر وآمن بضرورة التضحية وأخذ بالعزيمة، يبدأ بِلَوم كل من لا يضحّي معه، تارةً بأنهم جبناء وخونة يريدون التغيير ولا يعملون من أجله، وأخرى يقول بأنهم غارقون في الأوهام والأحلام حتى اعتقدوا أن التغيير قد يحدث دون تجهيز الناس وتدريبهم ميدانيًّا، ليقول إن الشرارة لا بد أن تبدأ ولو بالقليل، وسيندفع الناس أفواجًا إذا تشجّعوا.

لكن ما تحتاجه القضية لا يقتصر على أناسٍ يؤمنون بها ويُخلصون لها ويستعد للتضحية لأجلها فحسب، بل تحتاج إلى عقل مستنير وبصيرة وتخطيط وفهم ووعي، فكما يُقال بالأدبيات الإسلامية: “الجاهلية المنظمة، لا يهزمها إلّا إسلام منظّم”. 

فكما أنت تخطط وتدعوا الناس إلى الخروج، هناك مراكز دراسات ممولة وأجهزة أمنية قوية تركّز على وأد هذه الفكرة إمّا بالتخويف أو الترهيب أو الاغتيال المعنوي لأصحاب هذا الخطاب أو غيره من الوسائل، لكي لا يصل خطابك إلى بقية شرائح المجتمع.

ومن المعلوم بطبيعة الحال، أن الخروج للقيام بمظاهرات أو مسيرات سلمية، تحتاج إلى عدد لا بأس به للتأثير بصوتك ضد السلطة، وبث روح الشجاعة لدى الناس ليخرجوا معك، وما دون ذلك من محاولات خجولة مثل خروج عدد لا يزيد عن العشرة أو العشرين، ستكون السلطة حينها في أسعد لحظاتها، فاعتقالهم سهل، وفي اعتقالهم تقليصٌ لأعداد المعارضين والقيادات المحتملة، وإرهابًا وتخويفًا لكل من يفكّر بالخروج .

لذا نعرف هنا من واقع مجرّب أن الخروج بدون وعي هو خسارة من كل النواحي، خسارة للأفراد بحكم اعتقالهم وتغييبهم، ولكل من يؤمن بالقضية وأهمية التغيير، سنخسرهم مع يأسهم وانعدام الرؤية أو الضبابية في الطريق.

فلا بد أن نكون مسؤلين عن أنفسنا وعن الأفراد وعن القضية التي نناصرها، فالقضية تحتاج أكثر من إيمان بالتغيير وحماس لها. نعم التغيير والحِراك مطلب مشروع ومهم وكلنا نتحمل الأذى في سبيله، لكن إن لم يكن بوعي فستذهب تلك التضحيات هباءًا منثورًا، ورفاقنا وأساتذتنا ومن بذلوا ماء عيونهم بصبرهم ونضالهم للقضية ينتظرون منّا مسؤوليةً كالتي حملوها؛ نعم لكل تغيير ضريبة، وقبل كل مستقبلٍ مشرقُ الكثير من التضحيات، لكننا لا نهدرها بعشوائية وصفاقة تُقوّي خصمنا وتُضعفنا.

وتستوقفنا هنا نقطةٌ أخرى: لماذا أصبحت التضحية غايةً ومطلبًا بذاتها؟ لِم لَم نَعد نفكّر كيف ننصر القضية بطرق ووسائل إبداعية، وأن ننشر قضيتنا ونعمل على توعية مجتمعنا وبقية الشرائح المغيّبة؟ نستطيع أن نعمل الكثير دون الحاجة إلى التضحية بأنفسنا بالخروج إلى الشارع، أو بأي شكل من أشكال المقاومة العلنية التي نتعرض فيها للاعتقال أو غيره.

ولا ننسى أن لكل مرحلة أدواتها ووسائلها المناسبة، فأشكال المقاومة تتغير باستمرار بما يناسب مرحلتها وسياقها وخصوصيّتها، فعِوضًا عن التركيز على الخروج للشارع كـالسبيل الوحيدة للتغيير، يجب التفكير في خطط أبدع بأشكال المقاومة، فكل جيل أو فئة في بلادنا لديه أدوات وطُرق أنسبُ للتأثير عليهم، فعلى كلٍّ منا إذًا محاولة التعرف على حجم قدراته ومدى تأثيره ونوعية خطابه، والجمهور المستهدف، ومهاراته الحالية، ومن بعد ذلك له أن يسأل: كيف أعمل وكيف أطوّر؟

نستطيع أنا وأنت الآن نخرج للشارع ونهتف بأعلى صوت رافعين شعار “يسقط النظام!” أو بأي مطلب تريده، لكن ماذا بعد؟ نُعتقل. لم نتسبب بأي ضغط قوي أو نوعي للسلطة، بَل حرمنا القضية من مهاراتنا وطاقاتنا بهذا العمل، وخسرنا من يؤمن بنا وأصابهم اليأس، ثم أخيرًا يَحكم الاستبداد من تبقى منّا… ومن ثم دعنا نسأل أنفسنا: هل حقًّا وفعلًا نصرنا القضية بأفضل طريقة ممكنة؟

التغيير يحتاج إلى وعي، قل عنه صنمًا إن شئت، ولكن الحماسة لا تغير بؤس الواقع وأهمية استعدادنا له والبناء لأجله، وهذا البناء، البناء الثوري، هو ما نود التطرق إليه واستعراض بعض نماذجه، لا لاستنساخها بل لدراستها والاستفادة منها لنعرف كيف نسير إلى الأمام مستنزفين طاقة السلطات على قمعنا، ولكي نقي أنفسنا من استنزاف السلطات نفسها لطاقاتنا وكوادرنا وأفرادنا، ومن ثم زيادتهم.