حين يكون الصمت جريمة
الرجل الأبيض ومحرقة الضمير الحديث
## المشهد الأول:
عقدة الذنب الألمانية وهولوكوست الصمت
كان يمكن أن يكون مشهدًا عاديًّا: دولة عريقة تحمل ذاكرة مجزرة، تعتذر عنها في المحافل، وتبني المتاحف لتذكّر الأجيال، وتسنّ القوانين التي تُجرّم النسيان. ألمانيا، بوجهها الحداثي المنضبط، تبدو وكأنها استعادت ضميرها من الرماد، فطهّرته بالأرشيف والاعتراف. لكن، ما إن يُذكر اسم "إسرائيل"، حتى تنقلب الصورة: يسود الصمت. لا اعتراض، لا تساؤل، لا حتى حياد بارد. فقط صمتٌ كثيف، يحمي آلة القتل ما دامت تتكلم العبرية، ويجرّم من يهمس بـ"لكن" صغيرة. فجأة، تصبح المحرقة مؤسسة أخلاقية بحدّ ذاتها، لا ذاكرة فحسب، وتتحوّل الضحية إلى مانح حصانة أبدية... لمن ورث جرحه وأدمن استخدامه.
يبدو أن الألمان، رغم كل ما يُقال في عبقريتهم الهندسية وتنظيمهم الإداري وثرائهم الفلسفي الممتد من كانط إلى هيدغر، ما زالوا مصرّين على تلقين العالم درسًا عكسيًا في الأخلاق. فالذين كانوا يوماً جلّادي أوروبا، باتوا رُهبان الضمير الحديث، يجلدون أنفسهم صباحًا، ويباركون جلادي غيرهم مساءً، باسم تلك العقيدة الباردة التي تُسمى "عقدة الذنب".
عقدة الذنب؟ لا بأس، لنعترف بها. ولكن أن تتحوّل إلى عبادةٍ لذكرى، وذبيحةٍ دائمةٍ على مذبح "الضحية الواحدة"، فهذا ليس ضميرًا، بل شكل متطوّر من الفجور السياسي. فجورٌ يلبس قناع الاعتذار الأبدي، بينما يدسّ في جيبه صكَّ الغفران لمن ينفّذ هولوكوستًا آخر، لا بالنار هذه المرة، بل بالكاميرات، والإعلام، والفيتو.
أليس مثيرًا للغثيان أن تتحوّل دروس التاريخ إلى شعائر تطهيرٍ لا تُطهّر؟ أن يعتقد الألمان أن كفّارتهم لا تكتمل إلا بالصمت عن المجازر، ما دامت تُرتكب بأيدٍ من نسل الضحايا؟ أيّ فقهٍ هذا الذي يُحرّم التذكير بالجلاد، ويُجيز التستّر على جريمة الضحية حين تتقمص دور الجلاد؟
ثم يُقال لك: "نحن نكفّر عن ذنبنا". لا، أنتم ترتكبون ذنبًا جديدًا. الأول كان فعلاً من أفعال الوحشية البشرية، أما هذا، فهو فعل من أفعال التواطؤ المتأنّق. الأول قتلَ أجسادًا، وهذا يقتل الحقيقة. الأول جريمة قوم، وهذا جريمة حضارةٍ بكاملها تصمت، وتُدرّس الصمت، وتُجرّم من يصرخ.
حين تتحول عقدة الذنب إلى شللٍ أخلاقي، تصبح أخطر من الجريمة الأصلية نفسها. لأنك لا تكتفي بحمل وزر أجدادك، بل تُضيف إليه وزر السكوت عن أقرانك. ومن هنا، فإن سكوت الألمان عن هولوكوست فلسطين لا يُطهّرهم من هولوكوست اليهود، بل يورّطهم في جريمةٍ مركّبة: جريمة السكوت، والتحيّز، وإعادة تدوير الظلم... ولكن هذه المرّة معطرًا برذاذ إنساني.
فهل هذا ذكاء؟ هل هذا ضمير؟ أم أن الذكاء، حين يُفصل عن البوصلة الأخلاقية، يصير أداة للجريمة، مجرد تقنية لصناعة التبرير؟
إننا لا نطلب من الألمان أن "ينسوا" ما فعلوه في أربعينيات القرن الماضي، بل نطلب فقط أن يتوقفوا عن بناء حاضرهم الأخلاقي فوق جثث الغائبين، دون أن يلتفتوا إلى الجثث الجديدة المتكوّمة في غزة والضفة وتحت ركام الذاكرة.
فمن لم يجرؤ على قول كلمة "لا" حين يُسفك الدم، فلا حق له أن يفتخر بأنه "تعلّم من التاريخ".
لكن دعونا لا ننسى أكثر المشاهد ابتذالًا: حين يواجه المسؤولون الإسرائيليون – نتنياهو وأقرانه – بحقائق موثّقة عن مجازر غزة أو قصف الجنوب اللبناني، لا يناقشون. لا يُنكرون. لا يُبرّرون. بل يلوّحون ببطاقة الهولوكوست. ويقولونها بوضوح لممثلي الحكومات الأوروبية: "أنتم آخر من يحق له أن يعترض، أنتم أحرقتم يهود أوروبا".
وهكذا، تتحوّل ذكرى جريمة كبرى إلى تصريح دائم بالقتل، إلى وثيقة تبيح المجازر طالما المُجرِم يحمل لقب "من نسل الضحية". وحين يحدث هذا الابتزاز العلني المقرف، لا تسمع من الأوروبيين إلا التنهيدة الكسيرة، أو الصمت المهذّب. لا أحد منهم يجرؤ على القول – مثلًا –: "طيب، ما رأيك أنت والأوروبيون المتورطين في تلك الحرب (على ز**؟!) ؟"
لا أحد قال هذا. لا أحد يجرؤ. لأن الابتزاز العاطفي الصهيوني يعمل كقنبلة دخانية تُخفي كل شيء: الحقائق، الجثث، الوثائق، وحتى المعنى.
لكن الحقيقة تظلّ عارية، وإن حاولوا تغليفها بخرق الضحية: من يستخدم ذكرى المقتلة ليُبرّر مذابحه… هو ليس ابنًا للضحايا، بل مجرد تاجر في السوق السوداء للضمير البشري.
## المشهد الثاني:
ترامب وحنين الرجل الأبيض إلى استعمارٍ بلا حساب
المشهد كان مثيرًا للذهول: رئيس أمريكي سابق، يقف أمام الكاميرات، ليتهم حكومة جنوب إفريقيا بـ "الإبادة الجماعية" ضد الأقلية البيضاء. نعم، الأقلية البيضاء. المستعمِر الذي جاء غازيًا، والذي رآكم ثروته وسطوة أرضه في زمن الفصل العنصري، بات في خطاب ترامب "ضحية". والضحايا الحقيقيون؟ سكان البلاد الأصليون الذين لا يزالون حتى اليوم يعيشون في بؤس الأراضي المسروقة والهوامش العمرانية المنفية... صاروا هم الجلادين. لم يُعتقل أحد، لم يُطرَد أحد، بل طُرحت – بخجل – فكرة "إعادة توزيع الأرض". مجرد فكرة، فخرج ترامب صارخًا: "علينا أن نستقبل اللاجئين البيض!". ومرةً أخرى، ينجح الرجل الأبيض في قلب المشهد بالكامل، ويُرينا الاستعمار كحالة إنسانية تحتاج إلى اللجوء.
ليس غريبًا أن يُطلق دونالد ترامب تهمة "الإبادة الجماعية" كما لو أن التاريخ يحتاج إلى دروس في الوقاحة. فالرجل الأبيض، حين يشعر بانكماش امتيازاته، لا يرى في العدالة إلا تهديدًا، ولا في استعادة الأرض إلا تطاولًا من عبيدٍ تجرأوا على المطالبة بما سُلب منهم.
البيض في جنوب إفريقيا لم يُطردوا، لم يُلاحقوا، لم يُذبحوا. كل ما حدث – أو كاد أن يحدث – هو إعادة طرح فكرة إعادة توزيع الأراضي التي استُلبت بقوة الفصل العنصري. مجرد فكرة، فإذا بالإعلام الأمريكي يذرف دموعه المالحة، وإذا بترامب يعلن حالة الطوارئ العرقية: "علينا أن نستقبل اللاجئين البيض!". لاجئون؟ هل أصبح المستعمِر، بمجرد شعوره بانكماش سلطته، لاجئًا؟ أيّ جحيم لغويٍّ هذا؟
في المشهد ذاته، في اللحظة ذاتها، تُقصف غزة، تُقطع الكهرباء، يُدفن الأحياء تحت الأنقاض. والفاعل؟ ليس "طرفًا ثالثًا"، بل إسرائيل، اليد التي تلطّخها أمريكا ثم تغسلها بالفيتو. مشروع مُسلّح، مدعوم بالمال والسلاح والسكوت. إسرائيل لا ترتكب المجازر فحسب، بل تفعلها ""نيابةً"" عن الغرب، وتحت إشرافه، وعلى حسابه.
ترامب لا يجهل هذا. بل هو ابن تلك المدرسة، كاريكاتيرها المتضخّم. هو الذي قال: "علينا أن نأخذ نفطهم". هو الذي طرد أطفالًا ونساء من أمريكا لأنهم "غير بيض"، ثم استقبل أحفاد المستعمرين الهولنديين كضحايا.
هكذا يُعاد إنتاج الجريمة. في كل مرة، تتبدّل الكلمات فقط. ويعود الرجل الأبيض ليحكي القصة من بدايتها، بشرط أن تنتهي دائمًا كما يشتهي: هو الضحية. الآخر، أيًّا كان، هو الخطر.
أما أوروبا – وألمانيا تحديدًا – فتكتفي بالمشاهدة، ثم التوقيع على البيان. لأنهم ببساطة، لم يعودوا شهودًا على الجريمة، بل شركاء في صيغتها الجديدة: حيث الجلاد يرتدي بذلة الضحية، ويطالب بالعدالة... من باب التفوّق العرقي الناعم.
## المشهد الثالث:
حين تتباكى الوحوش على فَقْدِ أحد أنيابها
المشهد يتكرر حتى صار طقسًا إعلاميًا: انفجار في غزة، مئات الشهداء، أنقاض، وجثث أطفال تُنتشل من تحت الإسمنت. لكن الكاميرات لا تتحرك، ولا تهتز الشفاه. ثم، فجأة، تُبث صورة واحدة لرهينة إسرائيلية تبكي، أو جنديٍ مأسور تنشر عائلته له فيديو قديمًا وهو يلعب الشطرنج، فيُعلن الغرب كله حالة الطوارئ. تتوقف العواصم، تستنفر الحكومات، وتُعاد صياغة المشهد من جديد: الفلسطيني المعتقَل في زنازين الاحتلال لا يُرى، أما الإسرائيلي المحتَجز في غرفة نظيفة، فهو "ضحية الإرهاب". وبسحر اللغة، تتحوّل الجريمة إلى أسطورة دفاع، والمحتل إلى أيقونة هشّة يجب إنقاذها من براثن البدائيين.
المشهد الثالث لا يقل وقاحة عن سابقيه، بل يضيف إليهما بُعدًا دراميًّا ساخرًا: الغرب كله ينهض، فجأة، دفاعًا عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، كما لو أن وحشًا مسعورًا يحتاج إلى مَن يذكّره أن له الحق في العضّ متى شاء، وأينما شاء، وكيفما شاء.
لكن من هم هؤلاء الذين يبكي عليهم الإعلام الغربي ليل نهار؟ يسمّونهم رهائن، مختطفين، مدنيين عُزّل، بينما هم — على أقل تقدير — جنود احتياط، وعلى الأرجح: مستوطنون مسلّحون، جاؤوا من وراء البحار ليعيشوا فوق أرض مغتصبة، وتحت حماية مؤسسة عسكرية يُسجّل فيها كلّ "مدني" لحظة بلوغه.
الغرب لا يجهل هذا، بل يعرفه تمامًا، لكنه يتجاهله متعمّدًا، لأنه لا يرى في الفلسطينيين بشرًا كاملين، بل مجرد "ظلال كائنات" تتلقى الأوامر وتُفجَّر في نشرات الأخبار. فإذا أُسِر إسرائيلي واحد، استنفر الكون. وإذا مات ألف فلسطيني، سأل المتحدث الغربي عن "عدد المقاتلين بينهم"، ثم مضى إلى وجبة الإفطار.
ومع ذلك، لم يُؤسر أولئك "الرهائن" بغرض التنكيل، ولا لاختبار تقنيات الاغتصاب والحرمان كما تفعل إسرائيل بأسرى لا يُعدّون ولا يُحصَون. لم يُؤسروا إلا ليُبادَلوا بأسرى حقيقيين: أطفال، أمهات، رجالٌ خرجوا من السجون مشلولين، نساءٌ أنجبن خلف القضبان، أجسادٌ نُهبت أعضاؤها علنًا، وسُرقت صحتها، واهترأت آدميتها تحت إدارة وزراء صهاينة يفتخرون بأنهم قلّلوا السعرات الحرارية المقدّمة للأسرى لضمان استمرار عذابهم فقط، لا حياتهم.
هل نُذكّر أحدًا أن هذه ليست إشاعات، ولا صورًا من خيال عربي نازف، بل تقارير إسرائيلية موثّقة؟ هل نُذكّره أن بن غفير لم يخجل حين أعلن عن رغبته في أن "يعيش الفلسطيني فقط بالحدّ الأدنى ليعاني"؟ أم نكتفي بتذكير العالم أن من يحتفظ بهم الفلسطينيون كأسرى، يخرجون غالبًا بصحةٍ أفضل، وبعضهم ينتقد إسرائيل لأنها لم توفّر له علاجًا وفرته حماس؟
أيُّ مشهد هذا؟ أيُّ أخلاق تلك؟ الرجل الأبيض، مرّة أخرى، يلبس قناع الضحية، ويبكي بصوت مرتفع، ليس لأن الإنسانية جرحت، بل لأن امتيازاته خدشت. ثم إذا جادله أحد، انتفض مدافعًا عن "الفرق النوعي"، وكأنه يهمس في أذنك أن المقارنة أصلًا لا تجوز... لأن الإسرائيلي إنسان، أما الفلسطيني، فـ"حيوان سياسي"، يُقاس عددًا لا قيمة، ويُحسب خسارة لا مأساة.
وقد يقول لك أحدهم: لا تخلط بين الأمور. هؤلاء يعانون من متلازمة ستوكهولم! فنبتسم، ونقول: عجيب، لماذا لا نجد أسيرًا فلسطينيًا يعاني من هذه المتلازمة؟ أليسوا، بحسب منطقكم، ضحايا؟ أم أن الفارق الحقيقي الذي لا تُقال له تسمية في الإعلام، يُقال في القلب الأبيض العنصري: "هم لا يصلحون للحب. لأنهم، ببساطة، أقل من بشر".
تأملات في الاعتلال الأبيض
الذنب، الإنكار، وتواطؤ الحضارة
### 1. الذنب بلا خلاص: في اعتلال شخصية الرجل الأبيض
ليست المشكلة أن الرجل الأبيض ارتكب فظائع في تاريخه. فكل حضارة عبرت هذا الكوكب حملت في جوفها لحظة همجية. المشكلة أن الرجل الأبيض، منذ أن أخرج سيفه باسم "التحضّر"، لم يضعه قط. غيّر أسماء المعارك، وصاغ قوانين الحرب، وسنّ أعراف السلوك… لكنه ظلّ يقتل، ويُبرّر، ويبتزّ العالم بضميرٍ مصاب بعطبٍ داخلي مزمن.
ذلك العطب هو ما يمكن أن نسمّيه – دون مواربة – اعتلال الشخصية البيضاء: ذات ترى في نفسها مركزًا كونيًا، وتحاكم العالم بناءً على قربه أو بعده عن صورتها. وحين تقترف جريمة، لا تعترف بها حقًا، بل تحوّلها إلى أسطورة، ثم تعبد تلك الأسطورة بوصفها تميمة تُعلّق على صدر الأخلاق، كي لا تموت... وكي لا تعتذر.
خذ "عقدة الذنب" مثالًا. هي في الظاهر وعيٌ أخلاقي متأخّر. لكنها، حين تتجذّر خارج نَفَس التوبة وخارج شجاعة الاعتراف، تتحوّل إلى جهاز لإعادة إنتاج الهيمنة. فالذي لا يغفر لنفسه، لا يغفر لغيره. والذي يجلد ذاته دون أن يغيّر شيئًا في سلوكه، إنما يبحث عن طقسٍ يريحه، لا عن عدالةٍ تُصلحه.
وهنا… تدخل ألمانيا، بصفتها الحالة الأنقى والأشد فتكًا لهذا الاعتلال. دولة عظيمة في هندستها، صارمة في تنظيمها، عبقرية في إنتاجها… لكنها، في جوهرها الأخلاقي، مصابة بارتباك فاضح. منذ أن انقشعت سُحُب الرايخ الثالث، تحوّلت ألمانيا إلى الناسك الأوروبي، تقرأ تاريخها كل صباح، وتتلو على العالم تعاويذ الندم. متاحف في كل مدينة، قوانين تجرّم النسيان، لجان مراجعة، خطابات اعتذار. كل شيء منضبط، كل شيء نظيف. لكن ما إن يُذكر اسم "إسرائيل"، حتى يخفت الصوت، ويُغلق الباب، ويُنصَب تمثالٌ للصمت.
لماذا؟ لأن آلة الذنب الألمانية لا تسعى إلى تطهير، بل إلى إزاحة الذنب عن الكاهل، بإلقائه على مذبح "الضحية الدائمة".
في النموذج الألماني، تحوّلت المحرقة إلى بنية فوقية تحكم الأخلاق، لا إلى مأساة تُلزم بالعدل. صار الوقوف مع "من ورث الجرح" طقسًا دينيًا لا يُسأل فيه عن الجلاد الجديد، ولا تُمحّص فيه دوافعه. المهم أنك ترفع يدك في وجه من تسوّل له نفسه بالاعتراض.
الضمير، هنا، لم يُشفَ. بل أُعيد تشكيله كذراع رمزيّة لعنفٍ أخلاقي: كل ما هو ألماني حديث، محكوم بمنطق التكفير. لا خروج من الذنب، ولا تجاوز له، بل إعادة تدوير دائمة للحسرة… دون لمس الحقيقة.
وهكذا، يصبح الصمت فضيلة، ويُجرَّم كل من يهمس بـ"لكن" صغيرة. تُمنح إسرائيل صكًّا أبديًا للحصانة، ويُدان كل من يطالب بالمساواة في النظر إلى الضحايا. الضحية المفضّلة يجب أن تبقى ضحية، ولو كانت ترتكب مذبحة. أما من يقاومها، فهو إرهابي بالضرورة، لأن نظام الذنب الغربي لا يتحمل وجود ضحية لا تنتمي إليه.
والنتيجة؟ أن الألمان، بذكائهم الجمّ، أثبتوا أن الذكاء وحده لا يحمي من الوقوع في التفاهة الأخلاقية. بل إن ذكاءهم حوّل الذنب إلى عقيدة، والضمير إلى هندسة بيروقراطية: كل شيء مُراقب، مُصنّف، محسوب، إلا الحقيقة.
الحقيقة التي تقول: إن التواطؤ مع القاتل الجديد لا يُطهّرك من خطيئة القتل القديم، بل يجعلك شريكًا في جريمة مركّبة: جريمة الصمت، وجريمة التحيّز، وجريمة إعادة تدوير الذبح باسم التوبة.
ولعل أقصى درجات هذا الاعتلال ما نراه اليوم من ابتزاز سياسي معلن: حين يواجه مسؤول إسرائيلي بتوثيق جريمة، لا يناقش. لا يُنكر. لا يُبرّر. فقط يخرج ورقة المحرقة:
"أنتم آخر من يحق له الاعتراض، أنتم أحرقتم اليهود."
وحين تُقال هذه الجملة، لا يرد أحد. لا يجرؤ أحد. بل يلوذ الجميع بالصمت، وكأن جريمة الأربعينيات صارت رخصة دائمة للقتل، مادام القاتل ينتمي إلى نسل "الضحية الأصلية".
هكذا، تتحوّل المحرقة من مأساة إلى خطاب سلطة، وتصبح عقدة الذنب المسيحية – في نسختها البيضاء– ديانة حديثة بلا ربّ، بلا خلاص، بلا حق في الغفران أو في النقد. والمفارقة أن كثيرًا من الأوروبيين، ومنهم الألمان، لا يؤمنون بإله، لكنهم يمارسون شعائر التوبة كما لو كانت دينًا طبيعيًا للعالم الأبيض.
إن هذا الاعتلال – الألماني تحديدًا، والأوروبي عامةً – لا يُنقِص من جرم النازية، لكنه يُضيف فوقها جريمةً جديدة: جريمة الخضوع للأكاذيب باسم الخوف من الحقيقة.
والتاريخ، مهما حاولوا تعقيمه، لا يُشفى إلا إذا قيل كما هو:
السكوت عن المجزرة ليس كفّارة... بل مجزرة أخرى.
### 2. الصمت بوصفه سياسة: من النكوص الأخلاقي إلى المشاركة الفعلية
ففي لحظة انتصار الغضب، لا مكان للبراءة… إلا بوصفها ""خيانة عظمى"". قد يبدو لنا المشهد الغربي كتلة واحدة من الوقاحة والرياء، ونميل إلى صبّ غضبنا عليه ككلٍّ موحّد، من موقع الضحية. لكن الحقيقة المقلقة أن هذا "الكلّ" لم يعد وحده. لقد صرنا شركاء بالصمت، إن لم نقل بالفعل.
فالصمت الذي ندينه في برلين وباريس، نراه يُمارَس بصفاقة في رام الله والرياض وأبو ظبي. سلطة فلسطينية تحرس بوابات الاحتلال، وتضبط إيقاع الغضب، وتنسّق مع من يقمعها. أنظمة خليجية تخلّت عن الحياء، لم تكتفِ بأن تصمت، بل باتت تسوّق للقاتل، وتصفّي القضية باسم "الفرص الاقتصادية".
أما الشعوب؟ فقد تعلّمت أن الصراخ لا يغيّر شيئًا، فاختارت الصمت طقسًا يوميًا، وأحيانًا سُكرًا وطنيًا. لم تعد الخيانة بحاجة إلى تبرير، بل صارت تُمارَس كـ"واقعية استراتيجية"، كأنّنا نفاوض قدرًا لا عدوا، ونسوّق للتطبيع كما لو كان خط رجعة من الخسارة لا دليلًا على الفقدان الكامل للذات.
لقد صار الصمت مؤسسة. لا يخجل، لا يخشى، لا يفسّر نفسه. فقط... ""يصمت ليحيا أطول"".
### 3. من أنتم؟ يسألكم الغرب… ثم يجيب عنكم
من أكثر مظاهر الاستعمار فتكًا: أن تُنتزع منك لغة تعريفك لنفسك، وتُستبدل بلغة الجلاد. من هو الإرهابي؟ من هو المقاوم؟ من هو المدني؟ من هو الإنسان أصلًا؟ لم نعد نملك حق الإجابة.
الغرب الذي صنع صورة "المتحضّر"، هو من يحتكر تعريف "الضحايا" و"الجرائم" و"حقوق الإنسان". وفي غياب صوتنا، حتى براءتنا يُعاد إنتاجها بصوتٍ مستعار، بصوت طالب جامعي غربي، أو محاضر أخلاقي من قلب المؤسسة الليبرالية.
والمفارقة؟ أن هؤلاء الشرفاء، الخارجين من رحم الجامعات الأمريكية والبريطانية، لا يعرفون عن فلسطين إلا صورًا. لكنهم يعرفون ما يكفي عن ""الضمير"" ليقولوا: "لا". يصرخون، فيُفصلون. يرفضون، فيُصنّفون. يفقدون مستقبلهم من أجل نداءٍ لا يعود عليهم بشيء.
وهم، من حيث لا يقصدون، يعلّموننا أننا لا نحتاج إلى "عروبة" أو "إسلام" أو "قضية"، لنفهم الظلم. بل نحتاج فقط إلى ""أن نكون بشرًا بلا حسابات"".
### 4. لا منّة لأحد… ولا حصانة لأحد
في كل مرة يُحرّك فيها أحدهم ضميره ويتحدث عن فلسطين، تنهال عليه أسئلة الامتنان. "لماذا يفعل هذا؟"، "ما مصلحته؟". كأن التضامن لا يُفهم إلا كاستثمار، أو كمنّة من الأقوياء على المستضعفين.
لكن الحقيقة أن ""الخير حين يُفعل، يُفعل لصاحبه أولًا"". من يُحسن، يُحسن لأنه يحترم صورته الداخلية، لا لأننا نستحق شيئًا. وهذه ليست خطبة وعظ، بل معادلة وجودية: ""إن أحسنتم، أحسنتم لأنفسكم"".
لا فضل لأوروبي إذا وقف مع الحق، ولا شرف لعربي إذا سكت عن القهر. لا أحد يملك حصانة أخلاقية بالولادة أو بالجنسية. الإنسان يُقاس بموقفه، لا بشعاره، ولا بتاريخه.
وما يُدمي القلب أن يكون الشرفاء من خارجنا، ""أكثر شرفًا منّا في الدفاع عنّا"". لا لأنهم يحبوننا، بل لأنهم يكرهون الكذب... حتى حين لا يكون ضدهم.