مقالات

من أين نبدأ؟ | مجرى القمع وسدوده: الولاء المناطقي

الكاتب/ة نصير عبدالله | تاريخ النشر:2021-07-29

كنّا، في القطيف، مطلع العقد الميلادي السابق وأحداثه، نستشهد بالثمانينيات مقياسًا لأقصى مستويات القمع التي شهدتها منطقة القطيف، وكان السؤال هو ما إذا كنّا قد بلغنا ذاك المستوى أو قاربناه بَعْدُ أم لا، ولكن هذا السؤال، السؤال حول “مستوى” القمع، يواري الأنظار عن سؤالٍ لعلّه أهم للعاملين والعامِلات في المجال السياسي، ألا وهو سؤال مجرى القمع وسدوده، أي حول القدرات القمعية للسلطات، وتكتيكاتها، والحدود التي تعجز عن تجاوزها لأيٍّ سببٍ كان.

أهمية هذا  السؤال جوهرية لتحديد استراتيجيات العمل السياسي بدل الاتكال على الحماسة والحشد، فؤلاء الإثنين، دون وعاءٍ تنظيمي، تاريخُ صلاحيّتهما منقضٍ قبلَ الاستخدام، وأيّ وعاءٍ تنظيمي لن يدوم إذا لم يُصنَع مخصوصًا للبيئة التي سيوضع فيها.

ومن هذه المدينة التي شهدت أكبر مشاركةٍ جماهيريّةٍ في أي حراك سياسي في السعودية، بمظاهراتٍ بلغ تعدادها عشراتِ الآلاف، لنا أن نستسقي درسًا مما فعلته السلطات السعودية للتصدي لها، والدرس يلخّص بِكلمة: استراتيجيّات القمع محدودةٌ باستراتيجيّات الولاء. ولنأخذ هنا المناطقيّة كمثال.

عندما بدء الحراك في القطيف، واحتاجت السلطات السعودية للتصدي له بحملةِ قمعٍ طويلة الأمد، اضطرت – حسب ما شاع واختبره سجناء الحراك – للإتيان بقوّات أمنية “من الخارج”، وليس من خارج القطيف فحسب، فأغلبُ شرطةِ القطيف أساسًا ليسوا منها، بل من خارج مَنْ سبقَ وعمِلوا في القطيف مِنْ قوّاتٍ أمنية، أي: رجالُ أمنٍ منظورهم لأهالي القطيف مقتصرٌ على ما تلقّنهم إياه السلطات، وبالتالي ارتباطهم بالأهالي محصورٌ بهذه الحملة القمعية نفسها (وهنا نحن نتحدث عن وضعٍ تندمج فيه المناطقية بالطائفية، وإن كانت الغلبةُ للأخيرة).

تنتهج السلطات عدّة استراتيجيّاتٍ للسيطرة، منها التفرقة المناطقية، ولكن التفرقة المناطقية تستلزم بحدّ ذاتها تعزيز حسّ الانتماءِ المناطقي، وإنْ كان هذا قد يبعث بخطر الأحاسيس الانفصالية، فهذه غالبًا ما تكون سهلةَ القمع والاحتواء لسهولةِ تعبئة أهالي بقيّة المناطق ضدّها.

ولكن هذه التفرقة المناطقيّة تصعّب استخدامَ أبناءِ منطقةٍ ما لقمع أهلها، ما يستلزم على السلطات حصرَ أيّ حراكٍ في منطقةٍ معيّنة وإبقائه فيها، فكسر الحصار المناطقي قد يصعّب تعبئة القوّات الأمنية لأن تشكيلتها ليست متجانسةً مناطقيًّا، وهذا ما شهدناه في القطيف بالفعل، من الابتداءِ باحتواء الحراك في القطيف كافة والضخّ الإعلامي ضده، ومن ثمّ حصره في بعض الحواضر في داخل القطيف نفسها (العوامية)، ومن ثم بعض الأحياء داخل هذه الحواضر (المسوّرة على وجه التحديد).

وما ساعدَ في ذلك هو أن كثيرًا من المنتمين لتيارات المعارضة والإصلاح في باقي مناطق البلاد، ولأسباب لن نخوض في أغلبها هنا، تماشت مع رغباتِ السلطات إمّا بالامتناع عن التعاون العلني مع أهالي القطيف، أو بالمشاركة في الحملة الدعائية ضدهم، اعتقادًا منها أنّ امتناعها أو محاباتها للسلطات قد يعينها في نيل ما تريد.

ولكن ما جرى هو أنّ السلطات ماطلَت، وحالما تأكدت من أن الوضع القطيفي لن يخرج، وأنّ القمعَ في القطيف لن يثير أي تحرّكاتٍ خارجها، تسنّى لها إعادةُ تخصيص طاقاتها لاتخاذ إجراءاتٍ قمعية في باقي مناطق البلاد وعلى بقية التيارات.

ومن هذا العرض الموجز، نلمح أن العمل السياسي لأجل الإصلاح الاجتماعي، ضد القمع السياسي، لا يمكن أبدًا أنْ ينجح إن التزم بخطوط الولاء التي ترسمها السلطات، فهذه الخطوط هي ما تحدد قدراتها على القمع، وهي، في آخر المطاف، أخبرُ منّا بمستوياتٍ في توظيف مختلف أشكال التفرقة وتعبئتها لأجل أغراضها.