الكتابة في زمن انتظار السجن، هي كوداعك لأقرب الناس إليك وأنت ذاهب إلى مهمة شاقة وبعيدة محفوفة بالمخاطر ولا تدري أتعود بعدها إليهم أم أن ذلكم الوداع هو اللقاء الأخير !
اكتب هذه الكلمات وأنا انتظر اللحظة التي فيها تتصل الشرطة بي طلباً للحضور وقضاء مدة السجن 3 شهور قد تزيد إلى سنوات نظراً لوجود قضية أخرى منظورة أمام القضاء بتهم سياسية أشد ..
في هذه اللحظة لحظة كتابة هذه الكلمات تتزاحم الأفكار لتطرد بعضها بعضاً ولا تُبقي إلا شذراً من الكلمات ذات طابع حاد ربما وصريح ومباشر، هي الكلمات التي تختلج في نفسي منذ بداية هذه الرحلة أي قبل أكثر من 7 سنوات، رحلة عملي الحقوقي ..
تُرى هل أنا أكره أحداً؟ سيما أولئك الذين تعمدوا إهانتي بالتلفظ بأقذع الألفاظ علي وعلى أسرتي في ثنايا التحقيقات؟ أو من منعني من السفر لسنوات دون مبرر قانوني؟ أو القاضي الذي أمر بسجني فقط لأني وقعت على بيان يُطالب بالمحاكمات العادلة ؟ أو الأمير الذي ما فتأ مبعوثوه يهددوني بالسجن لسنوات إن لم أوقع تعهدا؟ أو رجال دين كتبوا عني تقارير أمنية شنيعة مليئة بالكذب وتصفني بأني ملحد؟ أو أسماء وهمية في الإعلام الجديد كذبت علي وعلى أفراد عائلتي إمعاناً في الإساءة لسمعتي؟!
أفتش في قلبي فلا أجدني كارهاً لأحد أبداً والله وإنما أشعر بالأسى عليهم ولهم تماماً كشعوري بالأسى لأولئك الذين تنازلوا عن حريتهم كما يتنازل شارب المسكر عن عقله فيهيم لا يلوي على شيء ..
تُرى هل أنا مستعد لما هو قادم ؟ في هذه اللحظة تحديداً أتذكر أسبابي وأتذكر أيضاً أن الحياة لها غاية وأن أولئك الذين عاشوا لأهداف نبيلة ومعاني سامية كانوا هم الأقدر على تحمل الصعاب ومجاوزتها، وأنني عندما أفقد تلك الأسباب أموت وفي أحسن الأحوال أكون في طريقي إلى الانكماش .. إننا في السعودية نعيش تحدياً خاصاً، تحدي أن تكون حراً وأن تملك (أناك) وأن تكون مدافعاً عن حقوق الإنسان أمام سلطة سياسية تُسخر كل إمكانياتها وسيطرتها على السلطة القضائية للزج بك في السجن وإسكات صوتك ..
وليس هذا هو التحدي الوحيد، بل ثمة تحدي مجتمعي كبير إذ نعاني من وطأة التطرف والجمود والذي تريده السلطة السياسية أن يبقى كذلك لأمد بعيد، لأنها به تكسب شرعية بقاءها وبمحاربته إن وصل تهديده إليها وبتغذيته فيما دون ذلك في آن معاً تعزز من شعورها الداخلي أن المجتمع يظل في حاجة لها وأن العالم لا ينوي الضغط عليها طالما هي تحارب التطرف كما تدعي وتوفر للدول العظمى النفط كما تريد ..
وهكذا يختزل الوطن في المادة دون المعنى، ونصبح بلد النفط لا بلد الحقوق والحريات، ويغض العالم بأسره طرفه ..
إلا نوع من البشر روحانيين جداً، يتعذبون كثيراً في نظر الآخرين لكنهم في غاية السعادة والسرور في دواخلهم، ذلك أنهم ممسكون بأمل كبير، أمل أنهم قادرون على الصمود رغم كل الصعوبات، يشاركون ويشاركهم حقوقيون من العالم كله فاضت إنسانيتهم تضامناً وتعاضداً وأحد هؤلاء قد قال يوماً من أمام قاعة المحكمة وقد توعده القاضي بالسجن، قال: من السجن توقد الشموع ..
د.عبدالله الحامد الذي هو في السجن الآن ورفاقه ورفاق الدرب الحقوقي هم الضوء الناصع في تلك العتمة الباهرة، وكما أننا لا نرى النجوم أثناء النهار، فإن الرفاق أولئك يتجلون في ليل الوطن ووسط الظلمة والظلم والظلام كدعاة حقوق وسلم مجتمعي وبناة وطن ذي سيادة ورفعة ..
وقد يصبح الوطن في برهة ما وفي خضم صراع شاق هو ذلكم الرفيق الذي يقف بجانبك في ذات الصف لا يخذلك ولا يتركك، وهكذا فعل الأصحاب من قبل، لأنهم يحبون الحرية، ويدعون لها قولا وعملا..
ولأن الحرية حالة تُستنبت وبذورها من التضحيات ذهبوا بعيداً في تضحياتهم إلى حد السماء وصنعوا لذواتهم سلاماً داخلياً لن يفهمه إلا محلّق مثلهم..ولذلك كله سأكون محلقاً معهم، وحتى وإن كنت في السجن لست في حاجة أبداً إلى نافذة ما لأتصل بالسماء، ولست في حاجة إلى الباب لكي أشرح للعالم لماذا أنا هنا في السجن .. ما أنا في حاجة إليه هو موجود في ضمائركم وفي ضمير كل حر ..وثمة أحرار في هذا العالم لن يسكتهم النفط ..!