مقالات

براثن الطغيان: الأمن الزائف والقبول المميت

الكاتب/ة مروان النجدي | تاريخ النشر:2024-08-30

ما إن يُعلن ملك نفسه طاغية، حتى يتهافت عليه الطامحون من ذوي النفوس المنحطة، فتجذبهم قوته من كل حدبٍ وصوب. الطاغية، بطبعه، يجتذب الفاسدين والمفسدين، فيحيط نفسه بهم، ويجعلهم جزءًا من نظام حكمه. هؤلاء ليسوا مجرد أتباع، بل هم أدواته الرئيسية في تنفيذ سياساته القمعية وحماية عرشه. يتقربون إليه طمعًا في الفتات الذي يمنحه لهم، ويسعون إلى تحقيق مكاسب شخصية، متغافلين عن الأذى الذي يلحق بهم جرّاء ذلك.

الطاغية لا يحتاج إلى أكثر من حفنة من هؤلاء المنافقين والطامحين لتحقيق استقرار حكمه. فهم أدواته التنفيذية التي تضمن استمرار سلطته وبقائه. ورغم معرفتهم بحقيقة وضعهم، فإنهم يواصلون الولاء له، لأنهم يحصلون على ما يرضي رغباتهم الضيقة، بغض النظر عن الضرر الذي يتعرضون له.

يُخيّل للطاغية، على الرغم من جبروته، أنّه يمتلك مفاتيح الأمن والسلام، متجاهلاً جوهرهما الحقيقي، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. فمن يعيشون تحت سطوته لا يعرفون من الأمان إلا ذلك الذي يُنحت من خوفهم من بطشه، لا من شعورٍ حقيقي بالأمن والاستقرار. قد يبدو هذا الأمن ظاهريًا، هشًا، وعرضة للانهيار في أي لحظة، كونه قائمًا على سطوةِ الطاغية وقدرته على سلبهم هذا الأمن الزائف متى شاء.

فكيف لمن يعيش تحت رحمة من يملك سلطة الإيذاء دون حسيب أو رقيب أن يشعر بالأمان الحقيقي؟ صحيح أن بعض الإجراءات الأمنية القمعية التي يفرضها الطاغية قد توهم الناس بالأمان من بعض الجرائم، إلا أنّه أمانٌ مشروطٌ بإرضاء الطاغية، لا ينبع من ضمانات حقيقية أو عدالة راسخة. ولا تُعدّ مؤسسات الدولة في ظل حكمه سوى أدواتٍ لبسط سيطرته على مفاصل المجتمع، بدءًا من تنظيم العلاقات الاجتماعية وصولًا إلى التحكم في أدق تفاصيل حياة الناس، كعلاقاتهم الأسرية وتعاملاتهم الاقتصادية. لذلك، تُختزل وظيفة هذه المؤسسات في خدمة الطاغية والحفاظ على سلطته، فتبدو وكأنها لا تملك من الأدوار سوى فرض هيمنته على كافة أصعدة الحياة.

في الحقيقة، لا يعتمد الديكتاتور على أجهزة الأمن والشرطة والاستخبارات لحمايته الشخصية فحسب، بل يُدرك أن هذه الأجهزة قد تشكل خطرًا عليه أكبر مما تحميه. لذا، يبني علاقات مع مجموعات من المرتزقة الأجانب لاستخدامهم في الحروب، بعد أن أضعف المؤسسة العسكرية عمدًا، إما بإفساد ضباطها أخلاقيًا، أو بتوجيههم للقيام بمهام خارجية بعيدة عن واجباتهم العسكرية الأساسية.

الطغاة يجيدون استغلال العواطف القومية ومشاعر الفخر الوطني لبناء صورتهم كمدافعين شرسين عن القيم التقليدية والشرف الوطني. واستخدامهم المكثف للإعلام يعزز صورتهم كزعماء أقوياء ومخلصين، يحمون شعوبهم ويدافعون عن تراب الوطن. لكن وراء هذه الصورة البراقة يكمن وجه قمعي يستخدم الوحشية والترهيب لإسكات أي معارضة، مما يكشف عن التناقض الصارخ بين الصورة العامة التي يظهرون بها وسياساتهم الفعلية على أرض الواقع.

يتكرر هذا المشهد عبر التاريخ، كاشفًا عن حقيقة إنسانية مُرّة: بغض النظر عن الثقافات والتواريخ المختلفة، يجد الإنسان نفسه عرضةً للسقوط في براثن الطغيان، متحملًا إياه بصورة تفوق التصور. وتزخر صفحات التاريخ بشواهد لا تُحصى لشعوب عاشت تحت وطأة حكم الطغاة لعقود، مما يثير تساؤلات عميقة حول مدى مرونة الإنسان وقدرته على احتمال الظلم والقهر.

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: إلى أي حد يمكن أن تبلغ قدرة شعب على تحمل طغيانه؟ هذا الحد الغامض يُعمّق مرارة الواقع، ويجعلنا نقف مذهولين أمام هول المشهد. إنه لأمر مؤلم حقًا أن نشهد كيف يمكن لأي شعب، بغض النظر عن ثقافته أو تاريخه، أن ينحني أمام جبروت الطغيان بانكسار واستسلام مذهلين.

إلى أي مدى يمكن للشعب أن يبقى صامتًا أمام الاضطهاد قبل أن يُقرر رفع صوته والانعتاق من قيوده؟ هل هناك نقطة فاصلة تنتهي عندها قدرة الإنسان على التحمل؟ لماذا يستمر الناس في قبول هذا الواقع المرير؟ هل يعود ذلك إلى طبيعة الإنسان التي تسعى نحو الأمان، حتى لو كان هذا الأمان مجرد وهم يخفي وراءه رهبة العقاب وغموض المستقبل؟

لا ننسى أن الإنسان بطبيعته لا يرضخ للعبودية إلا تحت وطأة الإكراه أو نتيجة لخداع مُحكم. وسواء كان مُكرهًا أم مخدوعًا، فإن الجيل الأول الذي يواجه الطغيان يُقهر بالقوة الغاشمة. أما الأجيال التي تليه، والتي لم تشهد ما شهده أسلافها، والتي وُلدت مُقيدة اليد ومكسورة الجناح، فإنها لا تعرف سوى الواقع الذي نشأت فيه، فتُسخّر نفسها لخدمة الطاغية وكأنما وجودها مرهون بخدمته، غافلة عن الظلم الواقع عليها. والتاريخ يخبرنا أن الشعوب قد تكون مستعدة للتضحية بحريتها الشخصية في سبيل الحفاظ على ما تبقى من سلم واستقرار، ظنًا منها أن هذا هو الخيار الوحيد المتاح.

هذا الشعور العميق بالرهبة يدفع الناس إلى قبول العيش تحت وطأة الطاغية، متجاهلين الحقوق التي يخسرونها في مقابل ذلك الاستقرار الزائف.

إن قبول الكثرة لطغيان الواحد يُحمّلهم فاتورة باهظة، لا تُدفع من مُقتنياتهم الزائلة من أوقاتهم وأقواتهم ومستقبل أبنائهم فحسب، بل من لحمهم الحيّ أيضًا! هذا الخضوع يُكبّلهم ويُشوّه إنسانيتهم. وبين رهبة العقاب وشوق الإنسان الفطري إلى الأمان، حتى لو كان وهمًا زائلًا، ينزلق الناس نحو الاستسلام والخضوع، فيكون الصمت أيسر عليهم من مواجهة الخطر المحتمل الذي قد يأتي مع الرفض أو الاعتراض. ومع أن الفاتورة باهظة، فإنهم يسلمون لها وهم صاغرون، في سلوك يبدو غير معقول ولا يمكن تبريره، خاصةً عندما ندرك أن هذا القبول ليس إلا لإرضاء طاغية جائر!

ورغم كل هذا، يظل هناك بارقة أمل. فالقدرة على التحمل ليست مطلقة، بل هي مقيدة بنقطة تحول، تلك اللحظة التي يُقرر فيها الشعب أن يقول لطاغيته "كفى". إن ما يجعل هذه الكلمة أقوى هو أنها لا تستلزم حربًا أهلية أو نزاعات مسلحة أو مجازر دموية لكي تتحقق. يكفي أن يُقرر الشعب التوقف عن تقديم الدعم للطاغية بأي شكل من الأشكال. فبمجرد أن يُدرك الناس أن طاغيتهم يستمد قوته من قبولهم للظلم والاضطهاد، فإن قول "كفى" يُصبح بداية النهاية لحكمه.

يبقى الأمل قائمًا في أن يتمكن الشعب من التخلص من طاغيته دون اللجوء إلى العنف أو الحرب الأهلية، بل من خلال إرادة جماعية حازمة وسلمية قادرة على إحداث التغيير وإنهاء حقبة الطغيان إلى الأبد.