مقالات

القسط من العمل الحقوقي الفردي إلى العمل المؤسساتي

الكاتب/ة ناصر العربي | تاريخ النشر:2024-09-02


في وطننا العديد من الشرفاء والنبلاء من الذين شمروا عن سواعدهم وكشفوا صدورهم ووهبوا أنفسهم للعمل الإصلاحي والسياسي، وكان ولازال هو همهم الأول والأساسي، في مجابهة الطغيان السياسي. هناك قلة من الناس تستطيع أن تصنع الفرق، وتتعلى عن الذات والكبرياء والأنا المتخمة وتعمل وفق الظروف المحيطة وتخرج بأفضل النتائج. هذا المقال ليس سيرة ذاتية عن مؤسس القسط الأستاذ يحيى عسيري، فشاهدتي فيه مجروحة، ولو كتبت ما كتبت فلن أوفيه حقه في جهده الملحوظ والغير ملحوظ، فهناك العديد من الأمور تحدث خلف الكواليس وهي أضعاف أضعاف الذي يبصره الناس، فما يخرج لنا نحن كمتلقين ما هو إلا رأس جبل الجليد. 

طوال عقود مضت كان الإصلاحيين السعوديين لديهم طرقهم التقليدية والمتعارف عليها في العمل الإصلاحي وفق الظروف المتاحة، وهي غاية في البساطة، حيث الديوانيات الثقافية والاستراحات والمجالس العامة، التي يجتمع بها النبلاء من أصحاب الهم العام، ويعملون للصالح العام لمواجهه الطغيان السياسي، من خلال البيانات الإصلاحية والأوراق التي ترفع للسلطة، منها ما هو معلن ومنها ما يتم إرساله عبر وسطاء. ومع هذا فإن أصحاب هذه الطريقة لم يكن هناك من طريقة أخرى، فالدولة المستبدة سدت كل أبواب العمل المدني، فلا هي تسمح بحق التجمع والعمل المدني ولا هي تترك للناس المساحة التي يستطيعون من خلالها العمل دون انقضاض أجهزة الأمن عليهم وإفشال مسوداتهم ومشاريعهم. لهذا كلما تتكون مجموعة إصلاحية وتنوا تقوم السلطة بكسر ظهر هذه المجموعة وشل قدراتها، عبر سجن أفرادها وسرقة مواردهم المالية.

خرج الأستاذ يحيي عسيري من وطنه إلى المنفى الاختياري، لأنه يعلم أن وجوده في الداخل لن يفيد الحركة الإصلاحية في شيء، لهذا قرر أن يستقر في العاصمة البريطانية، ومن هناك يسعى لكي يكوّن أول مؤسسة حقوقية سعودية تعمل بشكل مهني. هذه المؤسسة اليوم تكمل ١٠ سنوات، مليئة بالتجارب، والقصص والأفراح والأحزان. هي تجربة تاريخية بكل المقاييس وقصة صمود مؤسسها ومن معه أمام عواصف وظروف قاهرة واستثنائية. لم يكن هذا العمل ولازال مرحباً به لدى بعض الأشخاص والحكومات، فغاية مناهم هو إيقاف أي صوت مختلف ومستقل. لكن أهم ما في تجربة القسط هو القدرة على تحويل المبادرات الذاتية والفردية إلى مؤسسة ذات قوانين وتشريعات وتستطيع أن تعمل وفق آليات لا تعتمد على وجود شخص بعينة. وهذا هو لب مؤسسات المجتمع المدني.

فالعمل المدني هو ذوبان الشخصية في نظام عمل للصالح العام، فهذه التجارب ليست موجودة في قاموسنا المحلي، نعم هنا ملايين الأفعال الخيرية التي ينفق أصحابها أموالهم وجهدهم للصالح العام في أبواب الخير المتعددة، لكن هذا النشاط ينقطع بمجرد حصول إشكال لدى أصحاب هذه المشاريع. في تاريخنا وثقافتنا الإسلامية هناك مؤسسات الوقف، وهي أشبه ما يكون بعمل المدني، لكن قاتل الله الاستبداد، أوقف هذه المؤسسات التاريخية المستقلة وأعاد تشكليها كي تكون تحت جناح الاستبداد، وهو ما يناقض فكرتها الأساسية أن تكون مستغنية عن السلطة.

اليوم هو ما نحتاجه وجود مؤسسات متنوعه وكثيرة مثل القسط، في مجالات لا حصر لها. والساحة تسع الجميع، والمجتمع به من الإشكاليات والماسي ما يتطلب عمل الجميع. أما عن أهمية وجود مؤسسات مجتمع مدني، فهي اللغة والبناء الأساسي للبنية التحتية للعمل الديمقراطي، فمن خلال العمل المدني نكتسب اللياقة والأسلوب والفهم لعمل المؤسسات المدنية والسياسية. في المجتمعات المستبدة، تدمر السلطات أي فرصة للتجمع والعمل، لهذا تجد الكثير من المجتمعات هناك صعوبة في وجود أرضية للحوار الوطني والسبب يعود إلى وجود فراغ مدني، حيث المجتمع لم تكن له أرضية يستطيع من خلالها التواصل والحوار والحديث والاختلاف والتعايش مع فرقاء الوطن. لهذا مواطني المجتمعات الاستبدادية مشحونون بالكثير من الطاقة السلبية والشك والريبة وصعوبة وجود حوار بين إثنين لا أكثر، وهذا ليس خلل على المستوى الفردي، بل خلل أساسي في تركيبة المجتمع.

في الختام، ألف مبروك لنا كمتجمع محلي نرى الأمل في القسط وفي فريقها وفي مبادراتهم ومشاريعهم الإصلاحية والحقوقية التي تفضح وتعري الاستبداد، ألف مبروك لنا جميعاً وجود هذا الكيان الحقيقي الذي نشعر بالانتماء له لأنه يمثل همومنا وتطلعاتنا وينقل لنا أخبار وأحوال المقموعين من الأبرياء في وطننا، في المقابل، تواجه القسط وكافة منسوبيها بشكل مستمر ومعتاد هجوم مستمر وحملات لا أول لها ولا آخر من التشوية والتزييف والقتل المعنوي للمؤسسة ولأفرادها، ولكن يا جبل ولا يهزك ريح، والحق أحق أن يتبع. القسط لا تملك المال الكثير ولا الإمكانيات الخارقة، كل ما تملكه كلمة صدق وفريق يؤمن بما يفعل لأنه يعلم أن الكلمة أقوى من الرصاصة كما قال أبو بلال رحمه الله.