مقالات

أقلام مُغيبة | المملكة العربية السعودية الجديدة.. السلطة المطلقة في قبضة ولي العهد

الكاتب/ة جمال خاشقجي | تاريخ النشر:2024-11-03

قبل يومين من إلقاء القبض عليه في مطلع نوفمبر، أرسل إلى الأمير الوليد بن طلال برسالة نصية طويلة يؤنبني فيها على مقالات نشرت لي في صحيفتي الواشنطن بوست والفايننشال تايمز، حيث تجرأت في تلك المقالات على انتقاد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على ما أمر به من اعتقالات. 

معروف أن الوليد بن طلال، الملياردير ومالك الفنادق، هو ابن شقيق العاهل السعودي الملك سلمان وكان رئيسي في العمل عندما كنت مدير قناة العرب الإخبارية، التي كان يمولها. بعد ثلاثة أعوام من الإعداد والتطوير، انطلق بثنا من المنامة، عاصمة البحرين، في فبراير / شباط 2015 – إلا أننا لم نمكث على الهواء سوى 11 ساعة قبل أن توقفنا حكومة البحرين وتمنعنا من البث. 

فلماذا حصل ذلك؟ محتمل أن ذلك حصل لأننا منحنا نفس الوقت لناشط وسياسي شيعي بحريني كذلك الذي منحناه للحكومة السنية في البحرين.

تقلص التواصل كثيرا بيني وبين الوليد خلال العام الذي سبق اعتقاله، ولم يفاجئني ذلك كثيرا. خلال تلك الفترة منعت من الكتابة في صحيفة الوطن السعودية اليومية، ثم وضعت على القائمة السوداء من قبل صحيفة الحياة ذات الانتشار الواسع في العالم العربي، وذلك أنها هي الأخرى تعود ملكيتها إلى المملكة العربية السعودية. وقيل لي بأن أتوقف عن استخدام تويتر بعد أن تكررت انتقاداتي لقرار الحكومة باحتضان رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب. 

ولقد سئلت مرارا وتكرارا: "من الذي قال لك أن تتوقف؟" والجواب هو "مسؤولون في الحكومة ومن يواليهم." لقد كانت رسالتهم واضحة، ويعرفها جيدا من منا سبق له وأن تجاوز الخط من قبل، وكانت تقول: "إما أن تتوقف وترتدع أو تواجه العواقب، حيث سيحظر عليك السفر بادئ ذي بدء، ثم ستوضع تحت الإقامة المنزلية الجبرية، وربما بعدها ينتهي بك المطاف في زنزانة داخل السجن."

بعد عقود عشتها وأنا أتجاوز ذلك الخط، تعلمت من تجربتي أنه لم تعد توجد مسافة الآن بين موقف الحكومة الرسمي وبين ما يسمح لنا نحن معشر المواطنين بالتصريح به. 

كنا في الماضي نتمتع بهامش أكبر بكثير – ما كنت لأصف ذلك بأنه كان حرية في التعبير، ولكنه في نفس الوقت لم يكن أمرا بطاعة عمياء مطلقة. وفي بعض الأحيان لم تكن القيادة السياسية هي التي لديها مشكلة فيما نكتبه أو نقوله وإنما العلماء، أي القيادة الدينية، التي كانت أكثر تحسسا. 

لقد تم تحذيري

أما الآن، فالحكومة هي التي لم تعد تتسامح مع أي شكل من أشكال النقد، سواء كانت من باب السخرية السياسية من النمط الذي كان يمارسه جميل فارس، رجل الأعمال المسجون حاليا، أو كانت مطالبات بالديمقراطية وإتاحة مجال أكبر من التسامح، كتلك التي كانت تصدر عن الزعيم الديني سلمان العودة الذي اعتقل في شهر سبتمبر / أيلول. 

منذ أن نصب محمد بن سلمان وليا للعهد، والإجراءات العقابية والانتقامية سريعة ومفاجئة. ولذلك، عندما حذرت ارتدعت، وبالصمت التزمت، إلا أنني لم أفقد حاسة السمع – وما فتئت منذ ذلك الوقت أزداد قلقا على قلق. 

نأي الوليد بنفسه عني لم يزعجني. ما كان لرسالته التي بعث بها إلي قبل ثمانية وأربعين ساعة من اعتقاله بالضبط أن تكون أكثر تأييدا لمحمد بن سلمان، حيث شجعني فيها على مساندة ولي العهد في مشروعه قائلا: "يجري الآن بناء الدولة السعودية الرابعة بقيادة أخي الأمير محمد بن سلمان، وبلادنا بحاجة إلى ذوي العقول النيرة من أمثالك. يجب عليك أن تعود وتشترك معنا في البناء."

إلا أنه ألقي القبض عليه قبل تتاح لي فرصة الرد على رسالته، واعتقل معه في نفس الوجبة عشرة من الأمراء وعشرات المسؤولين بتهم الفساد والرشوة وغسيل الأموال. تصدرت أخبار الاعتقالات العناوين الرئيسية، ولكنها لم تكن بأي حال الوحيدة. 

فخلال الشهور الثلاثة الأخيرة سجن ما يزيد عن سبعين من رموز الفكر ورجال الأعمال ورجال الدين بتهم قصد منها بشكل واضح إسكات كل أشكال النقد. معظم هؤلاء لا يعرفهم الناس خارج المملكة العربية السعودية، على عكس المجموعة التي اعتقلت في فندق ريتز كارلتون في الرياض. 

معظمهم ليسوا متطرفين، وكثيرون منهم يؤيدون الإصلاحات بما في ذلك السماح للنساء بقيادة السيارات. 

نظم مسؤول كبير في الديوان الملكي اسمه سعود القحطاني حملة عبر الإنترنيت بهدف إعداد قائمة سوداء بأسماء مثل هؤلاء الأشخاص. وبينما طالب السعوديين بإدانة بعضهم البعض أطلق باسم حملته هاشتاغ عبر تويتر. 

إنه مشروع حقير، لا يختلف عما كان يفعله البوليس السري، المعروف باسم ستاسي، في ألمانيا الشرقية. وبالفعل، لم تعد تسمع سوى أصوات الذين يؤيدون محمد بن سلمان ويشيدون بسياساته، لأنه ما من أحد يجرؤ على التفوه بغير ذلك علانية. 

السلطة المطلقة

ما يجري في الرياض اليوم هو تغير شامل كان يمكن في حقيقة الأمر أن يفرز نظاما حكم أكثر عدلا. إلا أن ذلك ليس ما يحدث، على الأقل ليس بعد. 

ما لدينا بدلا من ذلك هو زعيم أعلى متمثل في شخص محمد بن سلمان رغم أنه لم يصبح بعد رئيس الدولة، ولكنه تمكن من خلال موجات الاعتقال المتلاحقة من أن يجمع لنفسه مقاليد سلطة مطلقة، مدنية وعسكرية. 

اتصل بي صديق قبل بضعة أسابيع وسألني لماذا أنا شديد الانتقاد لمحمد بن سلمان رغم ما لديه من رؤية وحاجة البلاد الماسة إلى التغيير. فسألته لماذا لم يعد بإمكاننا أن نعبر عما يجول في خاطرنا كما كنا نفعل من قبل. 

وقال لي سعودي تعلم في الغرب، وهو الآن جزء من هيكل السلطة الذي أقامه محمد بن سلمان، علينا أن نغض الطرف عن الاعتقالات باعتبارها عرض جانبي لا مفر منه لغاية أسمى وهي الإصلاح والرفاه. 

حقا؟ هل فعلا يتوجب علي أن أشاهد أصدقائي وهم يعتقلون الواحد تلو الآخر لا لجريمة ارتكبوها سوى أنهم يعبرون عما في نفوسهم؟ هل يتوجب علي أن أعلن بأن كافة إجراءات الحكومة جيدة ونبيلة؟ أي قرن هذا الذي نعيش فيه؟ هل هو القرن الحادي والعشرون أم القرن السابع عشر؟ 

في عام 2011، وبعد أن أضرم البائع التونسي المتجول محمد بوعزيزي النار في نفسه، نهض مئات الملايين من العرب. صحيح أنهم كانوا يطالبون بالوظائف، ولكنه طالبوا أيضا بأن تسمع أصواتهم، وبأن لا يطلب منهم أن يلتزموا الصمت. 

قد تكون الوظائف بلا صوت هي النموذج الذي يفضله الزعيم الصيني زي جين بينغ. أما أنا، ومعي معظم العرب، فإننا نفضل نموذج أنجيلا ميركل. أسمع الشباب وهم يعبرون عن قلقهم الشديد إزاء الطريقة التي يتصرف بها محمد بن سلمان. 

يقولون إنهم يريدون رؤية التغيير ولكنهم يريدون أن يكونوا جزءا من عملية تحقيقه، ولذلك من المهم جدا بالنسبة لهم أن يؤخذوا بعين الاعتبار وأن يكون لهم صوت مسموع. 

المحسوبية السعودية

لم تشهد بلادي مثل هذا المستوى من جنون الإبداعالارتياب منذ عام 1979. فمحمد بن سلمان لا يسعى فقط لأن يخلف والده، بل يحاول أن يقدم نفسه للناس كما لو كان كفؤا للملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس البلاد وملكها الأول. بل يذهب بعض مؤيديه إلى إضفاء صفة "المؤسس الثاني" على محمد بن سلمان. 

عندما يدخل إلى قاعة مؤتمر أو غرفة اجتماعات، تراه دائما يمشي منفردا والكل من خلفه يلحقون به، ولا يظهر في الصور إلا مع والده الملك سلمان الذي يبلغ من العمر واحدا وثمانين عاما، والذي بدون دعم منه ما كان محمد بن سلمان ليقدر على الاستمرار في مشاريعه الجريئة، والتي قد يصفها البعض بالخطيرة. 

على الرغم من أن محمد بن سلمان انقلب على البروتوكول الملكي، إلا أنه حافظ على بعض من العناصر الأساسية لمنظومة المحسوبية في البلاد كما هي. حينما نصب وليا للعهد في شهر يونيو/ حزيران، وأزاح بذلك ابن عمه محمد بن نايف من ولاية العهد، بادر إلى تعيين ما يزيد عن أربعين شابا من أفراد العائلة السعودية الحاكمة في مواقع مختلفة. 

وقبل ذلك، حينما كان نائبا لولي العهد، كان قد عين ثلاثين شخصا. وهدف محمد بن سلمان من ذلك هو أن يكون المعينون ممثلين لكافة فروع العائلة. 

وهؤلاء الناس هم من يشكلون بطانته، ولكنهم ليسوا شركاءه، ولربما يشعرون بالرهبة الشديدة تجاهه، مما يجعلهم يجتنبون كل ما من شأنه أن يسخطه أو يزعجه. فإذا ما تصرفوا، أو اعتبر أنهم يتصرفون، كحلفاء موالين له ولاء تاما فقد يجنوا بذلك تحسنا في أوضاعهم وارتقاء إلى ما هو أعلى من المناصب. 
يمكن اعتبار هؤلاء الأمراء الشباب علامة أخرى على التغيير، حيث أنهم هم الذين يمسكون اليوم بكثير من مقاليد الأمور ومفاصل النفوذ التي كانت من قبل حكرا على الأعضاء الأكبر سنا داخل العائلة. 

إلا أن السلطة المطلقة ليست سواء السبيل، مهما كان الحاكم حاذقا، ومهما كان مخلصا في الإصلاح، ومهما بلغت حاجة البلاد إلى الإنقاذ. لكم عانينا نحن العرب من الحكام الذين يبدون مخلصين وطنيا ولكنهم ما يلبثون أن يتحولوا إلى طغاة، فجل معاناتنا ومآزقنا وهزائمنا وحروبنا الأهلية إنما بدأت بسبب هؤلاء الزعماء. 

لربما كانت حملة مكافحة الفساد قيد التنفيذ، ولكنها أشبه ما تكون بمن يقطع واحدا من رؤوس الميدوسة لينبت مكانه رأس آخر. أود أن أرى حربا حقيقية على الفساد، لا حربا انتقائية – لا ينجم عنها سوى هز ثقة المستثمرين وتحطيم الاقتصاد. 

وأريد أن أرى حدا للتطرف، ولكنني لا أحب أن أرى المتدينين المتشددين يستبدلون بالفاشيين الذين يمجدون فضائل "الزعيم العظيم" بينما يدوسون بلا هوادة كل من يخالفهم. 

أريد أن أرى بلادي تجابه إيران وتوقف توسعها الطائفي في سوريا وفي اليمن وفي لبنان، ولكن دون المجازفة بإشعال نار حرب مفتوحة قد تنتهي بدمار البلدين معا. 

أريد أن أرى المملكة العربية السعودية حازمة حاسمة وذات نفوذ في المنطقة، ولكن دون التنمر على أي من الدول الصغيرة. 

نحتاج لأن نحتضن روح الربيع العربي بدلا من أن نخوض قتالا ضده.