إذًا، قلنا في المقال السابق أن المعارضة في ظل وجود القمع والفساد والتخلف هي بوابة الإصلاح، وقبل أن نتحدث عن أشكال المعارضة وواجباتها وأدوارها، وأسباب خوف البعض من كلمة “معارض” كما ذكرت سابقًا عن المرحوم جمال خاشقجي، قبل الحديث عن أشكال المعارضة سأكتب اليوم عن دواعي المعارضة، وهل نحن بحاجة لها.
وأذكركم أن من يحكم البلاد منفردًا هي أسرة آل سعود، يتحرك فيها مكان صنع القرار من موقع لآخر، ولكنه غالبًا مركز في أفراد الأسرة منذ الدولة السعودية الأولى حتى الحالية، ويتحرك تموضع السلطة في بعض المرات فتنال بعض التحالفات الداخلية شيئًا منها، وبعضًا من المستشارين والوزراء، ثم تعود وتنحصر أخرى في الأسرة، ومؤخرًا ازدادت المركزية فأصبحت السلطة كلها في يد شخصين اثنين، هما سلمان بن عبد العزيز وابنه محمد بن سلمان، وبسبب تمركز السلطة وانحصارها في شخصين أو في عائلة فهذا يجعل من يمسك بالسلطة مسؤولًا عن أي إخفاق يحصل، وهذا بديهي.
ولكي نبدأ المحاسبة فإنه يجب أن نبدأها منذ التأسيس، وكيف كان، وكم قُتِل من أبناء القبائل والأرياف، وكيف أُزْهِقت الأنفس بسبب حلم بناء الدولة والطمع في السلطة، وإن كانت قصصًا قديمة قد يقول البعض أنه قد عاف عليها الزمن، إلا أن ملف المحاسبة لم يُفتَح بعد، ولم يعتذر أحدٌ عما حدث في تلك الحقبة من إجرام، بل والأسوأ من ذلك أن المسؤولين عن ذلك لا يتنصلون من فعلتهم ولا يشعرون بالحرج منها، بل يفاخرون بها ويرددون أنهم حكموا بحد السيف، بالقهر والغلبة والإكراه، فالدولة الأولى انهارت وتبعتها الثانية ثم قامت الثالثة بمثل ما قامت به السابقتان، وفي كل مرة تزهق الأنفس وتدمر البلدات ويُغلَب الناس على قرارهم واختيارهم ومصيرهم، وبعد أن قامت، ونادى عدد من الإصلاحيين أن على السلطات إصلاح المستقبل والعناية به، مقابل أن ينسى الناس الماضي ويغفروه، ردت السلطات بالافتخار بالماضي، وبالاستئثار بالحكم في الحاضر، فأصرّت الأسرة أن تحكم وحدها، دون أن تسمح للشعب بالمشاركة، أو حتى السؤال والمراقبة والمحاسبة لمن يحكم، ورددوا في عدة مناسبات ما يوحي بأنهم يعتبرون هذه الأرض ملكًا لهم، بل من عليها قد يرونهم كذلك إذ سمّوهم باسمهم، واستخدموهم في خدمة الأسرة والحاكم وخدمة ما يريد، دون أي شعور وطني، أو اهتمام بمعنى الوطن، ومعنى الشعب، ومعنى المواطنة والمشاركة.
وفي ظل حكمهم كانوا يردون على أي إخفاق بأنهم “يريدون الصبر وإعطاء الحاكم فرصة للإصلاح” ويطلقون الوعود تلو الوعود منذ التأسيس حتى اليوم، ويحتفلون في كل مرة بالوعود، دون أن نحتفل ولا لمرة بإنجاز نستطيع أن نفخر به بين الأمم!
فأصبحت بلادنا الغنية بالنفط وبالموارد الطبيعية، وقلب العالم الإسلامي وقبلته، وبموقعها الجغرافي المتميز، وتاريخها العريق، وشعبها الطيب المسالم، أصبحت بلدًا في ذيل قائمة الدول، عندما تنشر المؤسسات قوائم الدول الأكثر تقدمًا في الحريات تجد بلدنا في ذيل القائمة، وفي الحقوق تجدها كذلك، وفي التعليم والصحة والصناعة والزراعة، بل أصبحنا عالة على العالم، لا نملك إلا المال الذي نأخذه من بيع كسول ومباشر للنفط، فما يخرج من الأرض يباع ويحوّل لنقد، ثم يستخدم هذا النقد في شراء كل شيء، من السلاح وحتى الغذاء، في اعتماد غير معقول على الخارج، وفي قتل رهيب لقدرات الشعب الصناعية والزراعية، وقتل حتى لثرواته التي كان من الممكن أن يلجأ لها في حال الاضطرار، ليكن بلدًا معتمدًا على الخارج بشكل شبه كامل، وقابل للسيطرة الخارجية والرضوخ للنفوذ الخارجي بشكل كامل حال أراد الخارج فعل ذلك لا سمح الله، وكل ذلك سببه استبداد السلطات وجهلها بدور الشعب وأهميته، وإغفالها بناء مؤسسات الوطن، وجنوحها لأسهل الحلول وأسرعها دون رؤى استراتيجية لبناء دولة حقيقية، في مخاطرة غير معقولة بمستقبل البلاد، وكل يوم يمضي من هذا الحكم هو أشد وأخطر مما قبله، وكل يوم تتكشف المخاطر بشكل أكبر!
ثم ماذا؟ ثم بعد كل هذا توغل بعمق في الفساد، حتى لم يعد سرًا ولا غريبًا أن نقول أن حكام السعودية ينعمون بثراء فاحش، ولديهم أرصدة متضخمة حول العالم، وصغيرهم لا يصعب عليه أن يملك أكبر يخت وأغلى لوحة وأفخم قصر، وكأن الأمر قد تم تطبيعه ولا يمكن استنكاره، ولا تجد السلطة حرجًا أن يردد مؤيديها قول “حلالهم، حلال أبوهم” عند الحديث عن سرقة أبناء الأسرة من أموالنا، كأنهم يظنون أو يريدون أن نقتنع أن مالنا حلال أبوهم! ويعيش الناس في ظل الخوف على مستقبل بلادهم، والخوف من الضياع، وضغط الحاجة، وضعف جودة الحياة في بلادنا، وفوق هذا كله، ويضاف له أن ترفض السلطات أن يتحدث الناس، أو يعترضوا على ما تفعله السلطة، وتسعى لتكميم أفواههم، فتضيف إلى التخلف والفساد قمعًا وظلمًا وإجرامًا! وللأسف، فكل يوم يزداد الاستبداد ومركزيته، ويزداد الفساد وتفشيه وتطبيعه، ويزداد القمع وتوسعه وبشاعته، فيقطع صحفي في قنصلية بدم بارد وعلى أنغام الموسيقى، من فرقة شكلها ولي العهد، ويعلق الناس في السجون كالمسالخ، ويجلد أصحاب الرأي حتى تتسلخ جلودهم، ويصعقون بالكهرباء ويتوسعون في التحرش الجنسي ومباشرة الاغتصاب، فهل بعد كل هذا نقول نعم لما يحصل؟ أم أن واجبنا القيمي والأخلاقي والإنساني والديني يوجب علينا أن نقول لا، وأن نعترض، وأن نقول بوضوح لا لبس فيه أننا نعارض هذه الممارسات، نعارض التخلف الذي أوصلوا بلادنا له ويزداد، ويجب أن نبني بلادنا، ونعارض الفساد الذي يتم تطبيعه ويجب أن نحفظ لبلادنا ثرواتها، ونعارض قمع أهلنا وشعبنا ويجب أن تتحقق العدالة، فهل هذه دواعٍ كافية لنعارض؟ بالطبع لا يعترض على المعارضة إلا جاهل بها أو مستفيد من التخلف والقمع والفساد.
كيف نعارض، وفوائد المعارضة والمأسسة وغير ذلك في القادم من متكأ، إلى ذلك الحين، كونوا بخير وتذكروا أن من يرى بلاده تدمر، وثرواتها تنهب، وأهلها يُقمعون ثم لا يعارض ولو بقلبه فهو خائن لوطنه.