تذكّرني الحالة العاطفية للمعتقلين بالرجال الجوَّف (جمع أجوف) الذين وصفهم ت. س. إليوت في رواية "الرجال الجوَّف":
T.S. Eliot:
"The Hollow Men":
We are the hollow men
We are the stuffed men
Leaning together
Headpiece filled with straw. Alas!
نحن الرجال الجوَّف
نحن الرجال المحشورون
نتكئ معًا
محشوة رؤوسنا بالقش. وا أسفاه!
يقول علي العساودة وهو معتقل سوري في سجن Busmantsi منذ نوفمبر 2022، بشكل مؤثر "نحن جثث تتنفس. هذا النظام يحتكر جوهر وجودنا في مجرد البقاء على قيد الحياة".
وبقدر ما تشير هذه الكلمات إلى توتر وجودي في المجمل بسبب ديناميكيات السلطة التي تصنع بيئة محاطة باليأس، إلا أن الدراسات الاجتماعية تناولت هذا الأمر بالتفصيل. ففي عمله الأساسي "الانتحار - Le Suicide: دراسة في علم الاجتماع"، يحدد أحد أسلاف علم الاجتماع Émile Durkheim أربعة أنواع من الانتحار التي لوحظت في المجتمع. -لا تزال دراسته قابلة للتطبيق على نطاق واسع حتى يومنا هذا- ويحدث أحد هذه الأنواع، وهو "الانتحار القدري - fatalistic suicide"، عندما يكون الأفراد مدفوعين إلى الانتحار بسبب القوى الاجتماعية التقييدية والقمعية المفرطة التي تحرمهم من الأمل أو من أي رؤية لمستقبل يستحق التوقع. على حد تعبير دوركهايم، ينشأ هذا الأمر من "التنظيم المفرط الذي يؤثر على أولئك الذين يشعرون أن مستقبلهم محاصر بلا رحمة، وأن عواطفهم مخنوقة بعنف بسبب الانضباط القمعي" (دوركهايم، 1897، كما ورد في مارسون وآخرون، 2019، للاطلاع على تحليل شامل، انظر ص 156). هذه البيئة لا تغذي اليأس والرغبة في الانتحار الذي يعبر عن صرخة وجودية فحسب، بل تولد العدوانية أيضًا، حيث كانت هذه الموضوعات شاغلًا أساسيًا لمنظري علم النفس والفلسفة الوجودية.
يشير سيغموند فرويد -الأب الروحي لمدرسة التحليل النفسي- في نظريته (ماوراء مبدأ اللذة - Jenseits des Lustprinzips) وآرثر شوبنهاور في نظريته (العالم كما الإرادة والتمثيل) إلى معاني جوهرية في فهم الوجود، إذ يلاحظ فرويد أن هناك صراع مستمر بين غريزة الحياة (محرك إيروس) حيث تتجه التدفقات النفسية نحو الحصول على اللذة، وغريزة الموت (محرك ثاناتوس) حيث تتجه التدفقات النفسية للتدمير الذاتي أو تكرار الألم - مثل مايحدث للمصابين باضطراب مابعد الصدمة- وهذا ما يناقض مبدأ اللذة، ثم تاتي نظرية العالم كما الإرادة والتمثيل لشوبنهاور، إذ يرى شوبنهاور في التمثيل أن العالم الذي نراه هو مجرد تمثيل لما في عقولنا وخرائطنا الإدراكية، وليس هناك عالم مستقل عن الإدراك الذاتي ونتائج المعرفة التي ينتجها العقل، معاكسًا بشكل واضح لنظرية كانط الذي يرى بأن العالم المحسوس هو ظاهرة تتشكل في عقولنا من خلال (الزمان والمكان والعلية)، ثم يرى شوبنهاور أن جوهر العالم هو الإرادة (مثل جوهرية الذات للإنسان)، فأي عالم يشكل جوهر الإدراك نحظى به كمعتقلين في المؤسسات الكلية؟
يجيب غوفمان: في المؤسسة الكلية تدار جميع جوانب الحياة تحت سلطة واحدة، مع جدولة الأنشطة اليومية بشكل صارم. يتم التعامل مع الأفراد بشكل موحد وتضيع الهويات الشخصية في هذه العملية. تميل ديناميكيات السلطة والسيطرة داخل هذه المراكز لصالح المؤسسة بشكل ساحق، متجاهلة الهوية والاحتياجات الفردية تمامًا، حيث يتم إملاء متى يمكن للفرد تناول الطعام أو النوم أو حتى استخدام دورة المياه، مما يخلق بيئة من التبعية والعجز. ويتوسع كليمر (1958) في هذه المسألة في كتابه "مجتمع السجن"، حيث يصف كيف تؤدي بيئات السجون (وبالتالي مراكز الاحتجاز) إلى "سجننة - prisonization" الأفراد، وهو قالب يتجرد فيه السجين من هويته الاجتماعية السابقة وإرادته الذاتية. وهذا الإطار الذي وفره كليمر كان أدق لفهم رؤى غوفمان حول كيف يمكن أن تؤدي المؤسسات الكلية إلى الانهيار الاجتماعي والذاتي من خلال قولبة الفرد في قالب التبعية القسرية وفقدان الهوية.
تنطبق نظرية غوفمان عن المؤسسات الكلية بوضوح داخل جدران المعتقلات ومراكز الاحتجاز، حيث تحدث جميع جوانب الحياة في نفس الحيز المادي الضيق المتاح لنا، تحت نفس السلطة، وفق خطة منطقية تهدف إلى تحقيق الأهداف المؤسسة الكلية متجاهلة الفرد. وهنا، تذوب الحواجز بين مختلف أجزاء الحياة التي يشكل تباينها جوهر الفرد، مع وجود متواصل في الحيز الجسدي والنفسي لدى آخرين، ويؤدي هذا إلى تفكك الإحساس بالذات بشكل منهجي، وقد سمحت لنفسي أن أطلق عليه "انهيار الفسيفساء - Mosaic collapse". وتزداد العزلة الاجتماعية والنفسية التي نعاني منها كمعتقلين بسبب عدم الاعتراف بحاجتنا للاتصال مع معالم أو أحداث الحياة. إذ تفرض المؤسسة حصارًا نفسيًا وخنقًا عاطفيًّا. فعلى سبيل المثال لا يُسمح لنا بالاحتفال بالأعياد مع الأحباء والأصدقاء، ولا الفرح الجماعي بالمناسبات الشخصية، ولا يُسمح للسجناء بالاحتفال الخاص مع أزواجهم أو أقاربهم بمولود جديد، ولا يُسمح لهم بتلقي التعازي في الفقدان، ولا يُسمح لك بأي شكل من أشكال الحزن أو الفرح الطبيعي لأنهم حكموا عليك بالعيش في مفارقة بين الرغبة والقدرية في الوقت نفسه، فإرادتك مغلولة من قبل المؤسسة، وتعيش في يقظة عالية تتزامن مع أحداث الحياة المتسارعة لكن استجابتك المقابلة خامدة. هذا يجلي بوضوح كيف تبني المؤسسة رغبة لدى الفرد المُحاصر وجوديًا بالانتحار، إذ يتجاوز تفسيره كونه حادثًا عرضيًا، إلى تعبير عن التمرد والقدرة المطلقة على الفعل. ويرتبط تأثير هذه المؤسسة الكلية، كما يصفه جوفمان، بديناميكيات اليأس والعدوان النفسي.
ووفقًا لهذا السياق الغير طبيعي يُبرز هذا الإطار مجددًا فلسفة شوبنهاور، التي ترى الإرادة كقوة الدافعة وراء كل وجود، حيث تشير إلى أن حتى في مثل هذه البيئات القمعية، تستمر الإرادة، لكن تعبيرها يتحول إلى أشكال من التدمير الذاتي أو الاستسلام العميق. وهذا يتناغم مع ملاحظات فرويد حول كيف يمكن أن تظهر غريزة الموت تحت ظروف السيطرة واليأس المفرطين، حيث تُعطل النزعة الطبيعية نحو الحياة واللذة، مما يؤدي بدلاً من ذلك إلى الرغبة في الانتهاء أو الإبادة الذاتية، مما يمكن رؤيته في التزايد الكبير في حالات الانتحار أو إيذاء الذات في مراكز الاحتجاز كصراع ضد ضغط الوزن القاحل لمؤسسة تراهم كأجزاء من نظام يجب إدارته أو السيطرة عليه أو التخلص منه، وليس كأفراد.
وفي عمل غوفمان، يُنظر إلى العدوانية أيضًا على أنها شكل مشوه من أشكال التفاعل عندما تنقطع الروابط الاجتماعية الطبيعية. فالصراعات التي نشهدها داخل جدران مركز الاحتجاز ليست مجرد نزاعات شخصية، بل تعكس اعتداء المؤسسة على الروح الإنسانية، وتجريدها من طبقات الهوية الضرورية التي تشكل جوهرنا كبشر، مثل الهوية الشخصية التي تشكل معتقدات الفرد وتوجهاته والهوية الاجتماعية العائلية وفقا لمواقعه العائلية والهوية الجماعية التي تحدد مكانته في المجتمع وغيرها. فالاكتظاظ والافتقار إلى المساحة الشخصية يصعّدان المشاكل البسيطة إلى مواجهات عنيفة بين هذه القوالب الجسدية المفرغة من المعنى بشكل قسري. وهذا ما يؤيده جوكس (2005) في كتابه "السجون والعقاب"، حيث يلاحظ أن مثل هذه البيئات تغذي العنف من خلال التجرد من الإنسانية والقرب الإجباري. هذا العدوان، الذي غالبًا ما يظهر في مواجهات عنيفة بين الأشخاص، يعكس مجددا عدوانية المؤسسة نفسها تجاه النزلاء.
وأعتقد أن هذه أحد أكثر أشكال العقاب الوجودي المتمثل في رسالة هذه المؤسسات التي تنكر احتياجات الفرد، في وقت تستمر فيه الأحداث الفعلية في الحياة الواقعية بالتراكم مع ترقب المجهول في مختلف مواسم الحرارة والبرودة النفسية، في مهمة سيزيفية تتمثل في الاضطرار إلى التعامل مع أزمة شخصية تلو الأخرى أو تكرار الصدمات في بعض الحالات النفسية الخاصة، مع المفارقة القدرية المطلقة وفقدان الإرادة الذاتية بسبب الاعتقال، مما يطرح شكلًا أشد حدة من أشكال الإجهاد النفسي والتوتر الوجودي الذي صوّره ألبير كامو في رواية "الغريب - L'étranger"، حيث يقول مورسو:
"أفترض أنني عشت كأي شخص آخر، أو أقل من ذلك. ولكن بعد اعتقالي تغيرت الأمور. انتظرت الحكم لمدة خمسة أسابيع. أعتقد الآن أنني ربما فقدت جزءًا من عقلي. ضغط الانتظار، والحرارة القهرية؛ كنت قد فقدت كل أمل في البراءة، وكنت مقتنعًا بأنه سيُحكم عليّ بالإعدام".
وهنا يشير كامو إلى نتيجة هذا اليأس والتوتر الوجودي حيث يؤدي إلى ما يسمى ب Near-death experience NDE أو تجربة الاقتراب من الموت بشكل مستمر وتوقع الإعدام في أي لحظة، خصوصًا في حالة المعتقلين المهددين بالإعادة القسرية والذين تنتهك بلدانهم حقوق الإنسان بشكل منهجي وتستعمل الإعدام كوسيلة لقمع المعارضة السياسية مثل السعودية وإيران وسوريا -سابقا-.
توضح هذه الحالة مفهوم "العجز المكتسب"، حيث يتقبل الأفراد، بعد التعرض المتكرر لمثيرات سلبية لا مفر منها، عجزهم، مما يؤدي إلى اللامبالاة أو الاندلاعات العدوانية كأشكال الحرية المتبقية الوحيدة. هنا، تكافح الروح الإنسانية، كما وصفها كل من فرويد وشوبنهاور، ليس فقط ضد القمع الخارجي، بل ضد صراع داخلي حيث تحارب إرادة الحياة مع الرغبة المدقعة في الاستسلام لليأس أو إنهاء المعاناة من خلال التدمير الذاتي، وهو ما يعطي تأملًا تراجيديا للآفاق الروحية والكونية والإدراكية التي يعيشها المعتقلين محبوسين في عالم مغلق يُدركونه من خلال القمع المطلق لذواتهم ولذتهم، بينما تُسلب منهم كل من إرادتهم الحسية والروحية؟ هذا واحد من أوضح صور العذاب والرعب الوجودي.
بالتالي، في سياق هؤلاء "الرجال الجوَّف"، لا يُسلب المعتقلون من حرياتهم الجسدية فحسب، بل يشاركون أيضًا في صراع روحي ونفسي عميق ضد آلة المؤسسة الكلية، مع سيطرتها الصاخبة واستخفافها بالإنسانية، والتي تحول الحياة النشيطة إلى مجرد قوالب، معبرة عن حزن إليوت لعالم يكون فيه "الشكل بدون صورة، الظل بدون لون، القوة المشلولة، الإيماء بدون حركة" يحدد وجود من يقع في قبضتها.
جوهر هذا التحول من شخص إلى "رجل أجوف" يكمن في النفي والإلغاء المنهجي للفردية، الأمل، والإرادة، والمحاربة العنيفة والممنهجة لطمس الذات لصالح المؤسسة محولًا تجربة الإنسان إلى العيش في لعنة فراغ وجودي عميق، حيث يصبح حتى فعل العيش كفاحًا كافكاويًا ضد بيروقراطية غامضة لا وجه لها تحدد ليس فقط ما يمكن للشخص أن يفعله، بل من يمكن أن يكون.