هنا .. صوت الناس، حينما تكون الكلمة الحرّة مقدّسة، والناس هم أصحاب القرار، حينما يكون ولي العهد هو المواطن.. ويكون العهد ميثاق الحقوق والحريات والعدالة.
هو الانحياز الواضح للأمة والشعب في ذلك الصراع المحسوم بين سلطان الفرد.. وسلطان الناس…
هو خيار اللجوء لجلالة الشعب وحكومته عوضاً عن الرضوخ للنمط الاستبدادي التقليدي في “جلالة الملك”.
حينما يكون صوت الناس هو الإذاعة الحرّة والصحيفة الشعبية، والمقال الحرّ، والتغريدة التي لا تخاف من “كلنا أمن” والمشاركة التي لا تتلفت خوفاً من الرقيب القريب!
هو الفرق بين أن يخاف الناس من المسؤولين أو أن يخاف المسؤولون من الناس…
الفرق بين الولاء لولي العهد الفرد… أو الولاء للشعب والناس…
قبل قرابة قرْن من الزمان.. حسمها أحمد شوقي حين قال:
جلال الملك أيام ويمضي ولا يمضي جلال الخالدينا
زمان الفرد يافرعون ولى ودالت دولة المتجبرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرضٍ على حكم الرعية نازلينا
وفي ذات العبارة يستخدم شوقي التعبير بالجلالة الحقيقية ليصف هؤلاء الخالدين –حسب تعبيره- من المصلحين والناس الذين ينادون بأن ينزل الرعاة على حكم الرعية ليتحدث عن جلالة الناس (لا جلالة الملك الفرد).
لأن نظرية “جلالة الملك” نشأت في عصور الضيم… وخلقت حزمة واسعة من الألقاب التي تبدأ بخادم الحرمين ونصير الدين والحاكم بأمر الله والقائم بأمره والعاصم والمعتصم والهادي والمهدي والناصر والمنتصر… وغيرها، وكلما جد سلطان تاريخي استبد بلقبٍ رمزي يضفي عليه مالا تضفيه أخلاقه وصفاته.
إن تلك النظرية المخزية لجلالة الملك وجلالة الفرد توحي بتضخم ذلك الرمز السياسي بألقابه على حساب الناس وأشياءهم… وحقوقهم.
ومع كل تلك الأوصاف… كان الناس يضيقون ذرعاً بخلع تلك الرموز الإسمية على المَلِك الفرد… حتى إن آخر من سقطت عليهم الأندلس كانوا أكثر السلاطين والأمراء ثراءً بالألقاب السلطانية… وهنا تبقى المقاربة المنطقية: كلما ازداد السياسي فقراً عملياً واستبداداً فارغاً ازداد ثراءً لقبياً وامتلاءً اسمياً… ولذلك كان أحد مثقفي الأندلس الشعراء سجل تلك الملاحظة الذكية شعراً قبيل سقوط الأندلس فقال:
مما يقبّح عندي ذكر أندلسٍ اسماء معتضدٍ فيها ومعتمدِ
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ
فابن عمار (وهو قائل هذين البيتين) ضاق ذرعاً بتلك الألقاب العريضة من معتمد ومعتضد وعاضد ومعضود.. و مشتقاتها ونظائرها التي لا تطيقها المجتمعات التي تعرف جلالة الشعوب وجلالة الناس.. وقدّر أن تلك الألقاب الفارغة ستقود للانهيار السياسي المحتوم، وهذا ما كان بالفعل.
إن ما يغيب عن هذه الجلالة الفارغة للملك… هو مصدرها وأساس سلطاتها الذين هم الناس في قوتهم وصوتهم المطلق.
لذلك جاءت مبادرة حزب التجمع الوطني ليكون صوت الناس لا صوت الفرد الطاغية ولا صوت الطغمة الفاسدة ولا صوت القلة المترهّلة على رأس كل مؤسسات الدولة.
جاءت لتعيد الأمور إلى نصابها، وتعيد للصوت المبحوح قوّته وصلابته، وتدفعه للواجهة.. في مواجهة وكسر عظم مع قوى الاستبداد الشرسة التي انتهكت كل القيم والمواثيق والأعراف والأديان… فقتلت في القنصليات، وعذّبت في السجون وتحرّشات بالناشطات، ونكّلت بالعلماء وأصحاب الرأي، وقادت نشطاء حقوق الإنسان إلى الزنازين والمعتقلات وآذت الأقلّيات وسامت كل أحد سوم العذاب.
لذلك كان حقّاً علينا.. أن نقوم بهذا الواجب الوطني التاريخي للدفاع عن الناس وعن صوتهم، وأن تكون منصّاتنا انعكاساً لهموم الناس وأحلامهم بالحقوق وشغفهم بالحرّية وتطلّعهم لقيم العدالة بكافّة أنواعها وأشكالها.
ومن هذه الحروف الأولى.. نعد المستبدين وكل من يحمل الكرباج والهراوة ويلوّح بعصاه للشعب… بأن القلم والدواة والمحبرة والعمل المدني الدؤوب سينتصر على إرهابكم، وسيستعمر أوهامكم المريضة، وسيجعلها أسوأ كوابيسكم!
هنا… لن نكون صوت السيف والفأس… بل صوت الناس
لن نكون صوت الجلّاد والحرّاس.. بل صوت الناس…
صوت الشعب الذي لا تعتعة فيه ولا تمتمة… صوت عربي يعرف طريق الخلاص: الناس.
هنا صوت الناس… والناس فحسب، دون رتوش، دون تزويقات، ودون تطبيل ولا تهويل… الناس والناس فحسب.