مقالات

فقهاء المؤسسة الرسمية (2)

نعود هنا للقضية الأهم: لماذا هذه الظاهرة غير مسبوقة بهذا الشكل الحالي في التاريخ الإسلامي العريق؟

برغم أن العلماء والفقهاء في التاريخ كانوا يمرون بمراحل مختلفة وتمثلهم شرائح مختلفة في تعاملهم مع "الواقع" ويتباينون تبايناً واسعاً في علاقتهم مع الناس وعلاقتهم مع السلطان ورؤيتهم حيال الموضوع، إلا أنهم في أسوأ حالتهم لم تكن تحاول احتكارهم مؤسسات محددة مرتبطة بشكل دوري ورسمي بالسلطة، بل وتضع السلطة نفسها القوانين التي تجعلهم المتحدثين الرسميين، لا باسم السلطة كما هو متعارف عليه في التاريخ القديم، بل باسم الدين، وهو الشيء الذي لم تكن السلطة السياسية في تاريخنا الإسلامي تجرؤ على احتكاره بهذه الشكل الفج العريض.

بكل تأكيد كانت هناك شخصيات بشكل فردي تلجأ للبلاط أو تتعامل تحت ظله، وحتى هذه الشخصيات تمارس شيئاً من ما يمكن تسميته بعلاقة "الصفقة الأخلاقية" بمعنى أن الفقيه قد يتنازل عن أشياء معينة مقابل تعميم فقهه أو القبول بالأحكام الدينية كحكم عام أو ما أشبه ذلك، ولكن كان مقابل هذه الفقيه أو ذاك، الشريحة الأوسع التي لا يحميها سلطان ولا يتحكم بها نظام يفرضه السياسي، ولا يحدّها قانون يتعلق بهم تضعه السلطة السياسية سوى المعايير الذاتية لهذا المجتمع نفسه.

التيار الأوسع من العلماء والفقهاء في العصر ماقبل الحديث مهما كان مستوى انخراطه السياسي، هو بنفسه كان يصنع قوانينه الخاصة، ويضع أدبياته، ويحكم مؤسساته ودوره، ومدارسه ومجالسه، ومجالس ذكره، وسكن طلابه، ووقفه، ودواوينه؛ لا يتم تعيينهم من أحد كما لا يستطيع أن ينزع عنهم فقهم أحد. قد يستطيع أي سياسي إيذائهم ومحاولة التحرش بهم لكن لم يكن يقدر على قتلهم معنوياً عن طريق احتكار علومهم لشريحة يحددها مسبقاً ويضع لها الشروط بنفسه، ويضع لها الضوابط، ويصرف عليها، ويعينها ويعزلها متى شاء!

إذاً، هو شيء مهم جداً هنا التذكير مجدداً والتنويه بأن هذا الكلام كان صحيحاً جداً، لأن التركيب الاجتماعي والسياسي الإسلامي ماقبل الحديث كان يعتمد على هذا النظام الاجتماعي الذي يصنعه الفقهاء والعلماء، وكان النظام السياسي له حدود معينة يضعها النظام الاجتماعي والديني والثقافي.. وليس العكس كماهو الغالب على الدولة الحديثة وملابساتها.

هذه الدولة الحديثة التي أنجبت هذه الظاهرة العجيبة: ظاهرة فقهاء المؤسسة الرسمية الذي أصبحوا أدوات المستبد للقمع والاضطهاد والضرب وتبرير كافة أشكال الانتهاكات الأخلاقية والحقوقية.