ينطلق مفهوم الأمن والأمان من الحاجة الملحّة لدى الأفراد والمجتمعات إلى الطمأنينة والاستقرار، غير أنّه غالباً ما يجري الخلط بينهما بشكل متعمد في الخطاب الحكومي. فالتمييز بين الأمن المرتبط بالتدابير والإجراءات الوقائية التي تعتمدها الدولة، والأمان المتمثل في حالة نفسية يعمّها الشعور بالطمأنينة الداخلية، هو مفتاح الفهم الصحيح لدور كلّ منهما. وما يرسّخ هذه الرؤية أنّ التاريخ الإسلامي قدّم نموذجاً واضحاً لإقامة مجتمع يربط بين الأساس الأمني والعدالة في ميثاق المدينة، فنتج منه شعور بالأمان لم يتأتّ من إجراءات قمعية، بل من احترام الحقوق وتوزيع المسؤوليات بعدالة. هذا النموذج يوضح كيف يمكن تحقيق التوازن بين الأمن كوسيلة مادية، والأمان كغاية معنوية ونفسية.
في المقابل، نجد اليوم أنّ بعض الأنظمة الاستبدادية أو الطغيانية تتعمّد تضخيم دور قوّاتها الأمنية، فتخلط بين المفهومين لتروّج أنّ السيطرة المطلقة للقوى الأمنية هي الوسيلة الوحيدة لحفظ الاستقرار، لتخلق بذلك مناخاً من الخوف يفتقر لطمأنينة الداخل. هذا المناخ ينعكس على رأس الهرم ذاته؛ فالطاغية، مهما امتلك من جبروت، يظلّ فريسة للشك والقلق، ويتوقّع الخيانة والتمرّد عند كل زاوية. ومع كل إجراء قمعي يتّخذه، يغوص أكثر في دوّامة الرعب، ويدفع بالتالي مجتمعه إلى مزيد من التوتّر والاضطراب، فيترك ندوباً لا تندمل بسهولة. وتلك الندوب لا تمسّ الأفراد فحسب، بل تطال النسيج الاجتماعي بأسره، مخلّفةً مجتمعاً يعاني من انعدام الثقة بين أفراده ومؤسساته.
ولأنّ الطغيان يفترض أنّ الأمن مرهونٌ فقط بقوّة البطش، يقع في فخّ التصديق بكذبة نشر الأمان وهو أبعد ما يكون عنه. فالقمع ليس حلاً، إنما هو مصدر تهديد دائم حتى للحاكم نفسه. ويتّضح ذلك في الحلقة المفرغة التي لا يكسرها سوى الوعي الجمعي لدى الشعوب، إذ تتفجّر إرادة التغيير وتعلو قيم العدالة واحترام الحقوق، رغم التكلفة الباهظة التي يدفعها من يتصدّى لهذه الأنظمة. ولعلّ التاريخ نفسه يقدّم دروساً لا تُحصى تؤكّد أنّ الطغيان وإن طال أمده، فإنّه إلى زوال، وقد يخلّف وراءه مشهداً من الدمار يدفع الجميع ثمنه بلا استثناء. وفي كل مرة، يثبت التاريخ أنّ الشعوب حين تُحرر من قيد الخوف، فإنها تسلك دروب العدالة رغم كل التضحيات.
يتجذّر هذا المأزق الاستبدادي في طبيعة النفس البشرية التي تميل إلى تعميم حالتها على الآخرين، فيودّ الطاغية لو أنّ المجتمع بأكمله يشبهه في القمع والسطوة، علّه يتخلّص من عزلته الأخلاقية. وفي حين تبدو تنشئة الأجيال على التسلّط وزرع الخوف والفساد ونزع روح النقد مهمة سهلة حين تسود ثقافة الخضوع، فإنّ التاريخ أكّد مراراً أنّ الإرادة الجماعية قادرة على تحطيم أسوار الخوف مهما بدت منيعة. ومع ذلك، لا يمكن التغافل عن أنّ الطاغية في جانب ما هو نتاجٌ لبيئة قهر وظلم وغياب للعدالة، ربّما تشبّع منها فكرة أن القوّة والبطش هما السبيل الوحيد للبقاء، ومن ثَمّ يتحمّل مسؤوليته في إعادة إنتاج هذا النمط القمعي. وهذه المسؤولية تزيد من عزلة الطاغية، إذ تتفاقم مخاوفه مع كل قرار قمعي يتخذه.
الخوف إذن هو حلقة الوصل بين الطاغية وضحاياه، فهو يخاف سقوطه، وهم يخافون بطشه، فلا يتعافى المجتمع إلا بتحطيم هذه الحلقة المفرغة وإطلاق مسيرة تحرر تُعلِي من قيمة العدالة والحرية. ورغم أنّ نهاية الطغاة حتمية، إلّا أنها غالباً ما تكون مصحوبة بدمارٍ كبيرٍ يدفع ثمنه الجميع، لأنّ قرارات المستبدّ تنبع من هواجس القلق ورعب الانهيار. من هنا تنبثق أهمية التحوّل نحو ثقافة الأمن المقترن بالأمان الحقيقي، المبني على صون الحقوق وحفظ كرامة الإنسان واعتماد القانون كضمان لا كوسيلة قمع، لينهض المجتمع في طريق الحرية والسلام. ولا يمكن أن يتحقق هذا التحول من دون إدراك الفرق الجوهري بين السلطة التي تستمد قوتها من رضا شعوبها، وتلك التي تعتمد على الترهيب لفرض الهيمنة.
في خضمّ هذا كله، يتجلّى الدور المضلِّل الذي تمارسه الحكومات المستبدة عبر ذبابها الإلكتروني، لترويج صورة وهمية عن أمنٍ مُدَّعى لا يدعمه سوى خطابٌ رسمي يختزل الاستقرار في قبضة قوّات الأمن. ومهما تنامت صعوبة التحقّق من صحة هذه المزاعم لغياب الشفافية وتكتّم الأنظمة، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة للجميع قد تفتح نافذة على حقيقة ما يجري، إذ نلمس تجارب الناس أنفسهم التي قد تُقدَّم كدليل على الأمن بينما تدلّ فعلياً على غيابه. وعندما تصل معدلات الجريمة إلى مستويات عليا، يصبح من الصعب إخفاء الحقيقة التي تتجلّى في يوميات الأفراد، وفي إدراكهم أنّ قوّات الأمن مهما بلغت من تنظيم وتجهيز لا تملك السيطرة على كل أشكال الجريمة، بل إن بعض المنتمين إليها قد يكونون الأكثر إجراماً وخطورة. وهنا يظهر التضليل في أوضح صوره: حكومة تدعي الأمن بينما تُسهم هي ذاتها في زعزعته.
ولعلّ ما حصل في قضية ازدهار سوق المخدرات في السعودية يوضّح هذا الواقع، حيث سعت الجهات الرسمية إلى إبراز حملات مكافحة للمخدرات بشكل استعراضي، وجرى التنكيل بتجار صغار وبعض الوسطاء، فيما ظلّت الرؤوس الكبيرة محصّنة. جاء ذلك مصاحباً لتصريحات مثل التي أدلى بها الضابط الرشيدي، الذي كشف عن استغلال موسم الحج لتهريب كميات هائلة من المخدرات، فلم يجد مُجيراً له لا في الدولة ولا في رأسها، فاستجار بالشعب السعودي دون أن يلقى استجابة، لأنّ الناس غالباً ما يتماهَون مع مناخ الخوف الذي تفرضه السلطة العليا. لم يكن الرشيدي مجرد ضحية لنظام قمعي فحسب، بل رمزاً لما يمكن أن يحدث لأي شخص يحاول كشف المستور.
مصير هذا الضابط انتهى إلى التصفية على الأرجح، بحسب ما كان يتوقعه، ليغدو شاهداً إضافياً على وحشية شبكة الاستبداد التي تُسكِت كل من يحاول فضحها من الداخل. وهكذا يتبيّن أنّ مروّجي الأمن المزعوم لا يسعون إلّا إلى ستر مجتمع يعاني تفشي الاستبداد والجريمة المنظمة، حيث تُجهَض كل محاولة جادّة لكسر الطوق المحكم. في المحصّلة، فإنّ ملاحظة هذا التلاعب بالمفاهيم وتكتّم الأنظمة على الحقائق، فضلاً عن قرائن الواقع الذي يظهر في تجارب الناس، يجعل التشكيك في دعاوى الأمن المزعوم واجباً فكرياً وأخلاقياً، حتى تتخلّص المجتمعات من ثقافة الخوف وتتوّج مسيرتها نحو العدل والأمان الحقيقي.
ولهذا، فإن التحوّل الحقيقي لا يبدأ بمجرد تغيير سياسي سطحي، بل بخلق بنية اجتماعية واعية تتسم بالعدالة والشفافية، ويكون فيها القانون وسيلة لضمان حقوق الأفراد لا أداة لقمعهم. عندها فقط يمكن للمجتمع أن يستعيد طمأنينته، ويحقق انسجاماً حقيقياً بين مفهوم الأمن كإطار مادي ومفهوم الأمان كحالة معنوية، ليصبح الاستقرار واقعاً ملموساً لا مجرد وهمٍ يُروّج له في الخطابات الحكومية.