مقالات

بروكسيات بلا أقنعة: مسرحية السيادة العربية

الكاتب/ة مروان النجدي | تاريخ النشر:2025-02-21

في خضم التحولات الكبرى التي عصفت بالمنطقة خلال الحرب العالمية الأولى، برز وعد بريطانيا للشريف حسين بن علي كواحد من أكثر الوعود إثارة للجدل. وعدٌ ظاهره التمكين، وباطنه التفتيت والتقسيم. كان الشريف طموحًا إلى حد السذاجة، فلم يسأل نفسه: كيف يمكن لقوة استعمارية أن تهب ملكًا لمن لا يملك قراره السياسي؟ وهل يُعقل أن تخطئ بريطانيا خطأً استراتيجيًا بمنح سلطة حقيقية لرجل عربي دون أن تضمن تفتت هذه السلطة قبل أن تشتد عودها؟  لكن الشريف، مدفوعًا بوهم النفوذ، صدّق أن بريطانيا صادقة في نواياها، لا سيما بعد أن أرسلت له لورانس العرب ليُنسّق معه خطوات ما سُمّي بالثورة العربية الكبرى. لم يدرك حينها أنه لم يكن أكثر من أداةٍ في مخطط بريطاني لإضعاف الدولة العثمانية، وأن البريطانيين لم يرسلوا لورانس كدليل على حسن النوايا، بل كشاهد زائف يؤكد التزام بريطانيا بوعدها، ريثما تستنفد استخدامه.  وحين حان الوقت للتخلص منه، كان لا بد من إيجاد بديلٍ لا يُثقل على بريطانيا بمطامحه الكبيرة. وقع الخيار على عبد العزيز بن سعود، الرجل الذي لم يكن يطمع بما طمع به الشريف، بل كان أكثر واقعية، مستعدًا لقبول حدود سلطته طالما أنها توسعت برضا بريطانيا، فضمّ إلى ملكه نجد، الأحساء، ثم الحجاز.  

ما إن أسقط ابن سعود العائلة الهاشمية من الحجاز، حتى سارعت بريطانيا إلى نفي الشريف حسين إلى قبرص، حيث وُضع للمحاكمة، بينما تولى أبناؤه حكم مناطق مختلفة بمباركة المستعمر، وكان تعيينهم اعترافًا بكفاءتهم في أداء هذه الوظيفة على أتم وجه. لقد رأت فيهم بريطانيا قدرة فريدة على التسافل والانحطاط، قدرة أكدتها مساراتهم السياسية وسلوكياتهم في الحكم، ومهارة في استعمال أدواتٍ لحفظ معادلة الخضوع والتبعية، حيث لم يكن المطلوب منهم قيادة أممهم، بل تكريس الانقسام وإدامة التخلف السياسي.  
وحين كان الشريف يُحاكم وهو عاجز عن ضبط حتى وظائفه الجسدية، يُبلل نفسه أمام القاضي والجمهور، كان أبناؤه يستلمون عروشًا أُعدت لهم مسبقًا، مجرد "امتيازات" لموظفين في خدمة المصالح البريطانية. لم يكونوا ملوكًا حقيقيين بقدر ما كانوا أدوات لإدارة الوصاية الاستعمارية، حيث لم يكن المطلوب منهم سوى تنفيذ السياسات المطلوبة دون اعتراض.  

بين الماضي والحاضر: إعادة إنتاج التبعية  

لم يكن هذا النموذج معزولًا عن سياق أوسع، بل امتدت جذوره إلى الزمن الحاضر. لا يختلف مشهد عبد الله بن الحسين اليوم في البيت الأبيض كثيرًا عن مشهد جده الشريف حسين وهو يواجه مصيره في قبرص. تتكرر القصة، وإن تغيرت الأسماء، فالمبدأ واحد: الحكام العرب لا يرسمون حدودهم، ولا يملكون قراراتهم، بل يتفاوضون على دورهم ضمن الخرائط التي تُرسم لهم.  ما أشبه اليوم بالأمس! ففي الماضي، كان سايكس وبيكو يرسمان الخرائط وفق مصالح بلديهما، أما اليوم، فها هو ترامب ونتنياهو يعيدان رسم المشهد وفق خرائط جديدة، قد يُطلق عليها يومًا ما "حدود ترامبو – نتنياهو". الحاكم العربي، الذي بالكاد يستطيع أن يرفض أوامر واشنطن، لا يتفاوض على استقلاله، بل يطلب هامشًا للعب داخل القواعد التي وضعها المستعمر الجديد.  وهكذا، فإن ما يبدو خلافًا عربيًا حول الحدود والنفوذ، ليس في الحقيقة سوى صراع على هامش السلطة داخل نظام لم يضعوه بأنفسهم. فحدود دولهم ليست نتيجة إرادة وطنية، بل مجرد خطوط رسمتها القوى الكبرى، ويمكنها تعديلها أو إعادة تشكيلها متى اقتضت مصالحها ذلك.  

حين يصبح الحاكم أداة وظيفية  

هنا تبرز فكرة "البروكسي"، والتي تتجاوز الحديث عن الحكام العرب كأفراد، لتكشف أنهم في حقيقتهم مجرد أدوات تُستخدم لتنفيذ مشاريع خارجية. استقلاليتهم ليست أكثر من وهم، فحتى قراراتهم المصيرية تخضع لمنظومة نفوذ أوسع تتحكم في مصيرهم. لا يمكن النظر إليهم كفاعلين حقيقيين، لأن سلطتهم الفعلية مُقيدة ضمن إطار تحدده القوى الكبرى، ولا يمكنهم تجاوزه دون أن يواجهوا مصير من سبقهم.  هذه الحقيقة تضع الشعوب العربية أمام تساؤل جوهري: هل نبالغ في تقييم دور هؤلاء الحكام؟ هل يُمكن لأحدهم، مهما كانت قوته، أن يغيّر موازين القوى العالمية؟ أم أنهم جميعًا، بلا استثناء، مجرد "بروكسيات" تخدم المصالح الدولية، وتتلقى مقابل ذلك امتيازات تُمنح لهم طالما بقوا داخل الخطوط المرسومة؟  

يتجلى هذا التناقض بوضوح عند تحليل الألقاب التي تُمنح لبعض القادة، مثل وصف محمد بن زايد بـ"شيطان العرب". هذا اللقب، رغم ما يحمله من دلالة أسطورية على القوة والتمرد، لا يعكس الواقع السياسي الفعلي. فالشيطان، وفق التصور الديني، كيان مستقل متمرد على النظام الإلهي، بينما محمد بن زايد، كغيره من حكام الخليج، ليس أكثر من أداة داخل مشروع استراتيجي تديره قوى أكبر.  إطلاق الألقاب ليس فعلًا بريئًا، بل هو جزء من الترويج لصورة زائفة حول الاستقلالية السياسية. حينما يُقال إن محمد بن زايد أو محمد بن سلمان "يحكمون بقرارهم"، يتم تجاهل حقيقة أنهم ليسوا سوى "موظفين" داخل شبكة نفوذ عالمية تُحدد لهم دورهم وحدود سلطتهم.  
لقد كان بودلير يقول: "إن من أكبر حيل الشيطان جعلنا نعتقد أنه غير موجود"، فأضاف أحدهم قائلا: "إن من أتفه حيل الشيطان أن يجعلنا نعتقد أن محمد بن زايد شيطانًا".

ما بعد الألقاب: نحو فهم أعمق للواقع السياسي  

النقد هنا ليس موجّهًا للحكام وحدهم، بل أيضًا إلى عقلية الشعوب العربية التي لا تزال تتعامل مع السياسة بمنطق الألقاب والشعارات. إن تصوير هؤلاء القادة على أنهم مستقلون أو متمردون على النظام الدولي ليس سوى وهم، لأن الواقع يُثبت أنهم يعملون ضمن منظومة محسوبة بدقة، لا تسمح لهم بالخروج عن الدور المرسوم لهم.  

إن السيادات العربية، التي تتصارع على الحدود وتتحارب عليها، بائسة إلى حد اللعنة؛ فقد بلغت وضعها درجة أفقدتها أي تميز، ولو كان ذلك من الخارج. فقد صار سلوك أصحاب السمو يظهر زيف تميّزهم في اصطناعهم وادعائهم، فتجدهم يتصارعون على هذه الحدود حتى تحمر وجوههم وتصفر، وتعلو أصواتهم بالغضب، وربما يتقاتلون كما تتقاتل الكلاب المتوحشة تحت عنوان النار والعار، وكأن هناك عارًا أعظم من أن يتنازعوا على حدود لم يخطوها.  ها هو ترامب يفعل، وها هم الحكام العرب يطيرون إلى أمريكا ليقابلوا سيدهم، لا ليعترضوا على حقه في رسم الحدود، بل ليناقشوه في تفاصيل تتعلق بمصلحته هو قبل أن تكون مصلحة لهم. يعلم ترامب صلوحية فعله، فهو وريث القوى التي رسمت حدود السيادات العربية أواخر القرن التاسع عشر، وهو قادر، بل ومن حقه، أن يعيد رسمها من جديد وفقًا لمصالحه. لذلك، حين سُئل: "ماذا لو لم يقبل الغزاويون؟ ماذا لو لم يقبل العرب؟" أجاب بثقة مفرطة: "أنا أعلم أنهم سيقبلون." وحين سأله الصحفيون: "وما دليلك؟" أجاب: "أنا فقط أعلم."  
كان رده هذا كافيًا لإسكات السائل الغربي، فهو، رغم فجاجته، يعبر عن اليقين الإمبراطوري الذي لا يرى حاجة إلى تبرير. أما لو كان السائل عربيًا، لكانت الإجابة مشفوعة بأسماء نعرفها جيدًا، ممن كانوا في خدمة سابقيه، ومن هم اليوم في خدمته، وسيكونون غدًا في خدمة وريثه، حين يرث البيت الأبيض سيدًا جديدًا.

بالتأكيد، ترامب لم يكن بحاجة إلى تبرير قراراته أو حتى الدخول في جدل حول شرعيتها، لأنه يدرك أن هناك مسلمات تحكم اللعبة السياسية في الشرق الأوسط، وهي مسلمات تُكرّس الهيمنة الأمريكية ولا تتيح مجالًا حقيقيًا للاعتراض الفعلي. عندما سأله الصحفيون الأمريكيون في فوكس نيوز عن الانتقادات الموجهة إليه من الشرق الأوسط بسبب تعامله مع غزة، أجاب ببساطة: "لا"، في إشارة واضحة إلى أنه لا يرى داعيًا للاستماع إلى أصوات لا تأثير لها في قراراته، لأن هؤلاء المنتقدين محكومون بالمعادلة ذاتها التي تجبرهم في النهاية على الرضوخ لسياسات البيت الأبيض.هذه الإجابة تتطابق مع يقينه عند رسم "حدود ترامبو – نتنياهو"، فهو لا يحتاج إلى إقناع الحكام العرب أو طمأنتهم، لأنه يعلم أن نظام التبعية السياسية يجعلهم عاجزين عن رفض قراراته، تمامًا كما كانوا عاجزين عن رفض اتفاقيات سايكس – بيكو أو وعد بلفور. وبالتالي، سواء كان الأمر متعلقًا بإعادة ترسيم الخرائط، أو بفرض رؤية معينة على الشرق الأوسط، فإن ترامب يدرك أن هامش المناورة العربية معدوم، وأن اعتراضهم – إن حدث – ليس أكثر من تمرين لغوي في المؤتمرات الصحفية، يُقال على استحياء قبل أن يتم نسيانه في أول اجتماع رسمي مع واشنطن.

بهذا المنطق، لم تكن إجابته مجرد ازدراء لموقف العرب، بل كانت تعبيرًا عن يقين إمبراطوري يقوم على معادلة ثابتة: لا توجد إرادة سياسية حقيقية في المنطقة يمكنها الوقوف في وجه القرار الأمريكي، وأي اعتراض يُمكن إسكاته بضغطة زر، عبر صفقة تسليح، أو تهديد اقتصادي، أو حتى تذكير الحاكم العربي بمصيره إن فكر بالخروج عن الخط.

ترامب: التنمر كدليل على الضعف وفرصة المناورة العربية

ورغم قسوة الواقع السياسي، يبقى هناك هامش للتفاؤل، إذ إن الازدراء الفظيع الذي يبديه ترامب تجاه الحكام العرب لم يعد يمر مرور الكرام حتى في العواصم الغربية. فقد بات زعماء أوروبيون، مثل إيمانويل ماكرون، يبدون امتعاضهم من طريقته الفظة، بل ويدعونه إلى احترام العرب بدل التعامل معهم كأدوات وظيفية. لكن المفارقة أن ما يستنكره ماكرون – حرصًا على ديبلوماسية الغرب – قد يكون في الواقع نعمة خفية للعرب أنفسهم، إذ قد يوقظ في نفوس هؤلاء الحكام الذين انحنوا طويلًا غضبًا غير محسوب، غضبًا قد يجبرهم على استعادة بعض الكرامة التي تنازلوا عنها طوال عقود من التبعية.ترامب نفسه دائم الترديد أن المتنمر ضعيف، وهو في الواقع متنمر وضعيف في آن واحد. إنه يتصرف بهذه العنجهية لأنه يدرك أن النظام الذي يحكمه قابل للانفجار من الداخل، وأن الانقسام الحاد في المجتمع الأمريكي بين فئة تشعل النار وأخرى تصب الزيت بات يهدد استقرار النظام السياسي برمّته.

حينما تعود أمريكا إلى سياساتها الانعزالية، فإنها لا تفعل ذلك لأنها تستطيع أن تظل قوة انعزالية، بل لأنها لم تعد قادرة على تحمل تبعات الهيمنة بنفس الطريقة القديمة. ترامب نفسه نموذج لهذا التناقض، فهو يجمع بين النزعة الانعزالية من جهة، وبين شن حرب اقتصادية عالمية تعتمد على تصورات تنتمي في جوهرها إلى نموذج العولمة، وهو ما يجعل استراتيجيته كارثية على المدى الطويل.

إسرائيل هُزمت، ولكنها ليست وحدها

لم تكن الهزيمة التي مُنيت بها إسرائيل في غزة مجرد نكسة لكيان استعماري استيطاني، بل كانت هزيمة مركبة شملت إسرائيل وأمريكا بالدرجة الأولى، ولم ينجُ منها أيضًا الحكام العرب الذين راهنوا طويلًا على مقولة "الجيش الذي لا يُقهر". هذه الهزيمة لم تقتصر على الخسائر المادية والعسكرية، بل امتدت إلى تحطيم التصورات الراسخة حول قوة إسرائيل المطلقة، لا من ناحية قدرة جنودها على الحسم الميداني، ولا من ناحية الدعم الأمريكي غير المحدود الذي كان يُفترض أن يضمن لها تفوقًا دائمًا.لقد زُرعت في العقل العربي لعقود صورة إسرائيل ككيان قادر على سحق أي مقاومة بمجرد تحريك آلته العسكرية، لكن هذه الصورة بدأت بالتآكل، حتى في أذهان أولئك الذين بنوا استراتيجياتهم بالكامل على فرضية أن إسرائيل وأمريكا كيانان لا يُمكن هزيمتهما. وإذا كان الحكام العرب قد اعتادوا على النظر إلى المقاومة كحالة هامشية، فإن ما جرى قد يجعلهم يعيدون التفكير – ولو للحظة – في أن المعادلات التي حكمت المنطقة لعقود لم تعد ثابتة كما كانوا يظنون، وأن ما كانوا يعتقدونه حليفًا لا يُقهر بات عاجزًا عن فرض إرادته حتى بأكثر الأدوات فتكًا.لقد أثبتت غزة، ومعها الشعب الفلسطيني بأكمله، أن هزائم العرب الأولى لم تكن بسبب تفوق الجيش الإسرائيلي أو لأنه جيشٌ صاحب معجزة إلهية، كما كان يُروّج في الخطاب الرسمي العربي لعقود. لم يكن الإسرائيليون في حربهم ضد العرب محاربين مؤيدين من السماء، بل كانوا مدعومين بتخاذل المؤسسة العسكرية العربية، وهي المؤسسة الأولى التي تعرضت لعملية تغريب وتفكيك ممنهجة جعلتها أداةً بيد الاستعمار أكثر مما كانت أداة لحماية الأوطان.

كيف يمكن أن ينتصر جيشٌ يقوده غلوب باشا، الجنرال الإنجليزي الذي كانت حكومته نفسها متورطة في إنشاء هذا الكيان الاستعماري؟ كيف يمكن أن نتصور مقاومة عربية حقيقية، وقد كان الذين يديرون الجيوش العربية عملاء للاستعمار البريطاني، ويأتمرون بأوامره حتى وهم يدّعون خوض الحرب ضد إسرائيل؟ لم تكن المسألة مجرد ضعف عسكري أو تفوق إسرائيلي، بل كانت مؤامرة مكشوفة لضمان تفوق الكيان الصهيوني عبر إضعاف الدول العربية من الداخل، ابتداءً من مؤسساتها العسكرية التي لم تكن سوى امتدادٍ للنفوذ الاستعماري البريطاني.ما يزيد الأمر وضوحًا هو أن بريطانيا نفسها التي صنعت الكيان الإسرائيلي، هي التي صنعت الكيان السعودي، وفي نفس الفترة تقريبًا. هذه ليست مجرد مصادفة تاريخية، بل هي سياسة استعمارية مُتعمَّدة انتهجتها بريطانيا في الأقاليم التي احتلتها، حيث كانت تترك خلفها بؤرًا من التوتر والفوضى تضمن استمرار الهيمنة الغربية، حتى بعد خروج الجيوش الاستعمارية رسميًا من تلك المناطق.

فكما أن إسرائيل كانت مشروعًا استيطانيًا وظيفيًا، فإن الدولة السعودية كانت كيانًا وظيفيًا آخر، جرى تمكينه وتوسيعه بنفس الأدوات التي مكّنت لإسرائيل. وهذا ما أكده ترامب صراحةً حين كان يتعرض لضغوط داخلية بسبب حادثة اغتيال جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول. عندما سئل عن سبب حمايته لمحمد بن سلمان وعدم محاسبته، لم يُخفِ الحقيقة، بل أقرّ بها بشكل فاضح حين قال إنه لا يريد أن تنهار إسرائيل. بهذا الاعتراف، وضع ترامب النقاط على الحروف: الكيان السعودي والكيان الإسرائيلي هما مشروعان بريطانيان – أمريكيان، مرتبطان وظيفيًا ببعضهما البعض، وأي مساس بأحدهما قد يؤثر على الآخر.
بعد السابع من أكتوبر، رأينا كيف أن حدود الكيان الصهيوني لم تكن محصورة داخل فلسطين المحتلة، بل امتدت حتى جزيرة يمنية في البحر الأحمر. لقد كشفت الحرب كيف أن خط الملاحة البحرية الذي يربط إسرائيل بالعالم الخارجي كان يعتمد بشكل أساسي على المرور عبر البحر الأحمر، وعندما قرر اليمنيون إغلاق البحر في وجه السفن المتجهة إلى ميناء إيلات، وجد الإسرائيليون أنفسهم في خطر وجودي لم يكن في الحسبان.هذا التحول الاستراتيجي كشف أن الكيان الصهيوني ليس محصّنًا كما كان يُصوَّر، بل هو هشٌ إلى درجة أن مجرد منع السفن من الوصول إلى ميناء إيلات قد يشكّل تهديدًا خطيرًا لاستمراره. ولذلك، رأينا كيف أن إسرائيل سارعت، عبر حلفائها في المنطقة، إلى فتح خطوط برية جديدة تعويضًا عن الإغلاق البحري، لأن استمرار الحصار البحري كان سيجعل من بقاء الكيان العبري رهينة قرارات قوى إقليمية ليست بالضرورة خاضعة لنفوذه المباشر.

إن ما كشفته هذه الأحداث هو أن إسرائيل لم تكن قوة عظمى مستقلة بذاتها، بل كانت دائمًا تعتمد على الدعم الخارجي، سواء من أمريكا أو من الحلفاء الوظيفيين في المنطقة. وهكذا، فإن أي تصدع في شبكة المصالح التي تدعم الكيان الصهيوني سيؤدي بالضرورة إلى إضعافه، وهو ما بدأ يتجلى شيئًا فشيئًا في ظل المتغيرات المتسارعة التي تشهدها المنطقة اليوم.

الطغم الحاكمة: بين خيانة الشعوب واستحقاق النسيان

إن التاريخ المخزي للعمالة والخيانة الذي مارسته الطغم الحاكمة منذ استقلال الدول عن الاستعمار لا يمكن غفرانه، لأن هذه الطغم لم تكن مجرد أدوات تابعة، بل كانت شركاء فاعلين في تكريس التبعية والقهر. وإن قررت اليوم أن تنحاز إلى شعوبها، فإن هذا الانحياز لا يُحسب لها، لأنها لا تنحاز إلى الحق من منطلق وعي أو قناعة، بل تنحاز إليه اضطرارًا، كما يختار المذنب طريق التوبة فقط عندما تضيق به السبل.لكن، رغم ذلك، هناك مكاسب وراء هذا الانحياز، ليس لأن الشعوب تحتاجه، بل لأن الاستعمار نفسه يستحق أن يُنتقم منه، بعدما تعامل مع هؤلاء الحكام كأدوات تُستهلك وتُرمى دون أدنى مبالاة. فالقوى الاستعمارية التي صنعت هذه الطغم لم تتورع يومًا عن إذلالها، بل كانت تزيد من قيودها، وكأنها تتلذذ برؤية تابعيها مكبلين أكثر، خانعين أكثر، محتقرين حتى من قبل من يخدمونهم.إن انحياز هؤلاء الحكام لشعوبهم قد لا يُكفّر عن خياناتهم، لكنه قد يسمح لهم بأن يرحلوا دون أن يُشنق آخر ملك بأمعاء آخر مستشار أو شيخ أو دكتور جامعة. قد يكون هذا الانحياز طريقهم الوحيد للنجاة من مصير الطغاة، بحيث لا يكونوا موضوعًا للكراهية، بل يُحذفون من الذاكرة، كما لو لم يكونوا يومًا موجودين.

إن أعظم ثواب وعقاب لهم في آنٍ واحد هو أن ننساهم. أن يرحلوا دون أن يُخلّدهم التاريخ لا في المحبة ولا في اللعنة، بل أن يُدفنوا في النسيان التام، حيث لا ذكر ولا أثر، حيث لا شاهد على قبورهم، حيث يصبح وجودهم كأن لم يكن. وهذا ربما، أكثر من أي شيء آخر، يستحق أن يكون موضع اهتمام.


الشعوب: القوة في ذاتها، لا في انتظار أحد

ليس أمامي إلا أن أذكّر الشعوب بحقيقتها التي ربما حاول كثيرون طمسها: أنها قوية، وقوتها في ذاتها، لا في غيرها. إنها قوية بقدرتها على الجهاد، بقدرتها على التضحية، بقدرتها على الاستمرار رغم كل محاولات كسرها. إنها قوية بشبابها الذين لا يشيخون، بينما أعداؤها يضعفون بشيخوختهم. إنها قوية بثقافتها التي أثبتت مرارًا قدرتها على استيعاب الجميع، حتى أولئك الذين لم يجزوا الإحسان إلا بالسوء.وإن كنا أهل قوة، فنحن أيضًا أهل تقوى ومغفرة. وأكثر ما يستحق المغفرة أحيانًا هو ذلك الذي لا يُغتفر، لا لأننا ضعفاء، بل لأننا نملك القدرة على التجاوز، كما يملك القوي القدرة على العفو دون أن يُبتزّ فيه. لكن هذه المغفرة لا تعني أن نغفل أو أن ننسى، بل تعني أن نرى الأمور كما هي، دون أن نسمح للغضب بأن يعمينا. علينا ألا ننجرف وراء ما تثيره فينا النخب النافذة والحاكمة في الغرب من غضب وقرف، وألا يجعلنا ذلك نتجاهل أن أكثرية الشعب الأوروبي والغربي والأمريكي فيه من الخير ما يستحق أن نُحسد عليه.تذكروا الشباب في الجامعات، الأساتذة في القاعات، أولئك الذين لم يخافوا على مستقبلهم المهني واستقرارهم الاجتماعي، بل قدّموه قربانًا على مذبح البراءة من نخبهم الفاسدة. إذا كانت الحكومات الغربية تدعم المستبدين العرب وتمنحهم أسباب البقاء، فحريٌّ بنا أن نتواصل مباشرة مع مجتمعاتهم، لا عبر الحكومات، ولا عبر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي ليست في النهاية سوى واجهات لأنظمة تعمل ضمن العمل الحكومي نفسه.

في زمننا هذا، لم يعد هناك ما يمنعنا من تجاوز هذه الواجهات الزائفة، لقد أصبحت لدينا الوسائل التي تجعل من هذا الاتصال المباشر ممكنًا. لكن الأمر يحتاج إلى ثقافة، ووعي، وثقة بالنفس، وتقدير لقيمة أنفسنا. نحن لسنا ضعفاء حتى نحتاج إلى وسيط يعرّفنا بأنفسنا، ولسنا تابعين حتى ننتظر اعترافًا من أحدٍ بقيمتنا.

وتذكروا، لو كان النبي العربي صدّق عمه حين قال له "لقد ارتقيت مرتقًا صعبًا يا رويعي الغنم"، لما كان، بعد ألف وأربعمئة عام، لا يزال قادرًا على أن يقول لنا شيئَا، ومنه قوله:

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ."

لقد بدأنا رسالتنا براع غنم رفض أن يُحجَّم، فلماذا نقبل نحن اليوم أن نكون أقل من ذلك؟