الانفصالُ بين الطغمةِ الحاكمةِ لإقليم الجزيرة وبين شعبها لم يَعُد مجرّد فجوةٍ سياسيةٍ يمكنُ تفسيرُها بقراراتٍ خاطئةٍ أو اجتهاداتٍ طائشةٍ، بل هو فجوةٌ وجوديةٌ تكشفُ أننا لسنا أمامَ أنظمةٍ استبداديةٍ بالمعنى التقليدي، بل أمامَ أنظمةٍ بلغت من التفاهة حدًّا يجعلُها أقربَ إلى أدواتٍ تنفيذيةٍ لأجنداتٍ لم تضعها بنفسِها، ولم تفكّر يومًا في بدائلَ لها. لسنا أمامَ طغاةٍ يدركون ما تعنيه السلطة في سياقها الطبيعي، حيث يكونُ الحاكمُ – حتى لو كان ظالمًا – معنيًا بإدارة صراعه مع شعبه، بل أمام مَن يصطَفون علنًا مع أعداءِ شعوبهم بلا مواربة، بلا حتى تلك الضرورةِ القديمةِ التي كانت تجعل الطغاةَ يُجمّلون استبدادَهم بخطابٍ قوميٍّ أو مشروعٍ وطنيٍّ أو حتى وهمِ استقرار. هؤلاء لا يُخفون الأمر، بل يتباهون به، وكأن العلاقةَ بين الحاكمِ والمحكومِ لم تَعُد تستوجب حتى الحدَّ الأدنى من الاحترام الذي يفرض على الأول أن يخدع الثاني ولو من باب الشكل.
ليس من المعقول أن يكونَ كلُّ ما نشهدُه اليوم مجرد سوء تقدير، أو أن تكونَ هذه الأنظمةُ تتخذُ قراراتِها من منطلقٍ براغماتيٍّ ولو كان براغماتيةً خائنة، لأن البراغماتية، حتى في أقصى حالاتها، تتطلب قدرًا من الحذر والمناورة واللعب بين الخطوط. لكن ما يحدث الآن يبدو وكأنه قطيعةٌ نهائيةٌ مع أيِّ محاولةٍ لتبرير السلطة، حتى أمامَ أكثر الموالين سذاجةً. الانفتاحُ على إسرائيل، وضربُ القيم الدينية، والعبثُ بالهوية، والتحولُ إلى أدواتٍ صريحةٍ للمشاريع الخارجية، كل ذلك يتمُّ بوضوحٍ فجٍّ، وكأن من يُدير المشهد لم يَعُد يرى في شعوبه حتى الحاجة إلى التبرير، بل بات يعتبرها عدوًا يجب التعامل معه كخطرٍ وجوديٍّ لا مجال فيه لصفقاتٍ سياسيةٍ أو حتى شعاراتٍ خادعة.
عند البحث عن تفسيرٍ فلسفيّ لهذا التحول الجذري، نجدُ أنفسنا أمام احتمالين؛ إمّا أننا أمام طغمةٍ بلغت من الجهل وقلة الحيلة ما يجعلُها تتصرف بغباءٍ استراتيجيٍّ غير مسبوق، وإمّا أننا أمامَ أنظمةٍ فقدت أيَّ صلةٍ حقيقيةٍ بشعوبها، فلم تَعُد ترى في نفسها حتى وظيفةَ الحكم، بل وظيفةً أخرى لا علاقة لها بالإدارة السياسية أو السلطة، بل أقربَ إلى تصريفِ أوامرَ تأتي من أماكن أخرى أو خدمةِ مشاريعَ لا تخصُّهم ولا تخصُّ بلدانَهم، لكنها تمثل بالنسبة لهم الملاذَ الوحيدَ للبقاء. كيف نفسِّر غير ذلك أن تصبح العلاقةُ بين الحاكم والمحكومِ مجرد علاقةٍ بين تابع وسيد، لكنها ليست علاقة التابع بشعبه بل بسيده الفعلي؟ وكيف نفسِّر هذا المستوى من العداء الصريح لكل ما يمكن أن يمنح الإنسانَ العربيَّ مساحةً – ولو صغيرةً – من المقاومة الفكرية، أو حتى على مستوى المشاعر الداخلية؟
المسألة هنا ليست فقط في الاستبداد، بل في "العدمية السياسية" التي أصبحت عنوانًا بارزًا لهذه المرحلة؛ عدميّةٌ لم تَعُد تؤمن حتى بالشرعية الشكلية التي يحتاجها أيّ نظامٍ لاستمراره، عدميّةٌ تسعى بوضوح إلى هدم أسسٍ كانت تُعتبر حتى وقت قريب قواعدَ لبقاء الأنظمةِ نفسها. ما يحدثُ ليس مجرد انحرافٍ طبيعيٍّ في مسار الطغيان، بل هو شكلٌ جديدٌ من الحكم، نظامٌ من التفاهة السياسية التي تجاوزت مفهوم السلطة كما عرفها التاريخ. فنحن أمام سلطاتٍ قررت بنفسها أن تتحوّل إلى مجرد كياناتٍ تنفيذيةٍ، سلطاتٍ لا يهمها حتى التماسكُ الداخلي، ولا تقلق بشأن تفكيك مصادر قوتها. لو تأملنا منطق الأنظمة السابقة، حتى تلك التي انهارت تاريخيًا، لوجدنا أنها على الأقل كانت تملكُ حدًا أدنى من إدراك خطر التدمير الذاتي، أمّا هؤلاء فيبدون وكأنهم يسارعون إليه بأنفسهم.
إنّ تفكيكَ الدين أو إفراغه من محتواه الاجتماعي، على سبيل المثال، لا يمكن تفسيره إلا بكونه دليلًا على فقدان هذه الأنظمة لأي حس استراتيجي. فحتى من منظور علماني محض، يُعتبر الدين أداةً للسلطة، ومكوّنًا أساسيًا للتماسك الاجتماعي. أما ما نشهده الآن فهو اندفاعٌ نحو استئصال كل ما يربط المجتمع بعضه ببعض، دون وجود بدائلَ تبرّر هذا الاستئصال. نحنُ لا نتحدث هنا عن دفاعٍ عن الدين من منطلق إيماني، بل من منطلق تحليلي يرى الدينَ مكوّنًا أساسيًا من مكوّنات الهوية الجمعية، التي لا يستطيع أي نظام سياسي عقلاني التفريط فيها أو استئصالها بشكلٍ كامل، إلا إذا قرّر النظام بوعيٍ كاملٍ إعلان الحرب على المجتمع نفسه، لا على خصومه فقط.
هكذا وصلنا إلى مرحلةٍ لم تَعُد السلطة فيها حتى مهتمةً بالتبرير أو التجميل أو الخداع؛ لم تَعُد ترى الشعوبَ أكثرَ من كائناتٍ تحت اليد، لا تشكّل أيَّ تحدٍ ولا تمثّل أيَّ قيمة. هي حالةٌ من "التفاهة السياسية" التي وصفها آلان دونو حين قال: «لم تَعُد التفاهة مجرد عرض جانبي في عالم السياسة، بل أصبحت هي النظامَ ذاته». ما نراه اليوم هو السلطة كمهزلة سوداء، لا كواقعٍ سياسيّ يُدار بمنطقٍ تقليدي. نحن أمام مسرحيةٍ لا يحاول الحكامُ فيها حتى تمثيل أدوارهم كما كان يفعل من سبقهم، وكأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم وصلت إلى مستوىً من التفاهة يجعل أي محاولة للإقناع أو الخداع فائضًا عن الحاجة.
وهنا يبقى السؤالُ مفتوحًا دون إجابةٍ حاسمة: هل نحنُ أمام نهايةٍ لمعنى السلطة بمفهومها التقليديّ، أم نشهدُ ولادةً جديدةً لأنظمةٍ لم تَعُد ترى في شعوبها سوى كياناتٍ قابلةٍ للتفكيكِ النهائي؟
"فضيعٌ جهل ما يجري، وأفظع منه أن تدري!"
حدَّثَنا البردوني عن فظاعةِ جهلِ ما يجري، وعن أنّ أفظعَ من ذلك أن تدري. لكنه سكت؛ لم يقل لنا ما بعد الإدراك. لم يُخبرنا كيف نعيش ونحنُ نرى الخرابَ يُصنع أمام أعيننا، كيف نتحمّلُ أن نكونَ شهودًا مدركين وعارفين بتفاصيل الانهيار، لكننا عاجزون عن تغييره، أو أن ما نفعله لا يُحدث فرقًا، ولا يحرفُ المسار ولو قيد أنملة.
أظنّهُ كان يُدرك ما تعنيه لعنةُ المعرفة حين لا تمتلك القدرةَ على الفعل. كان يعلم أن الإدراك لا يمنح القوة، بل هو الجحيمُ ذاته. أن تعيشَ مدركًا بلا وسيلةٍ للنجاة، بلا خيارٍ سوى أن تراقبَ ما يحدث، وأنت تعلمُ يقينًا أنّ كل ما لديك هو هذا الإدراكُ العقيم الذي لا يُنجبُ إلا اليأس. إنه الإدراكُ العاقر الذي يُخبرك أنك عاجز، وأن كل فعلٍ صغيرٍ قد تُقدِم عليه لن يُغيّر شيئًا، وأن مصيرك أن تنتظر فقط، حتى يسقط كل شيءٍ أمامك، أو تسقطَ أنتَ قبل أن ترى كل شيءٍ ينهار.
ألم يَعُد لدينا حقًا سوى الاعتراف بتفاهتنا كي نُخفّف من وطأة الشعور بالعجز؟ لقد تحوّلت العروبةُ إلى حسرة، لا بكاءَ العنصريّ على أصله، ولا بكاء المتحيّزِ لمنطقته، بل بكاءُ الإنسانِ على هويته التي لا يستطيع تبديلها، كما لا يستطيع تبديلَ واقعٍ يحاصره، وإلا لفعل. انتبهوا، لا ألمَ أقسى من إدراك الحقيقة بلا قدرةٍ على تغييرها، لا عذابَ أشد من أن ترى صورتك في مرآة التفاهة بوضوح، فاحذروا؛ إنَّ الوعيَ بهذا الأمر مؤلمٌ جدًا أيها التافهون.
حتى شيوخُ القبائل، الذين كانوا في يومٍ ما قادرين على صناعة القرار، فقدوا اليوم حتى القدرة على التفاوض على أبسط تفاصيل حياتهم. لم يَعُد لهم نفوذٌ حقيقي، صاروا مجرّد أدواتٍ مؤقتة تُستعمل وتُلقى جانبًا حين تنتهي الحاجةُ إليها. كانوا راضين بالأمر بالمعروف حين كانت تُمارس القمع، وعندما استبدلوها بمنظومةٍ أخرى، قبلوا وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن تغيير الاسم يُغيّر مضمون الاستبداد. والمؤلم في التافه أنه لا يفعل ذلك عن وعيٍ بجرمه، بل يمضي كحشرةٍ تلدغُ دون أن تُدركَ حقارتها. المشكلةُ لا تنحصر في هؤلاء الحكام وحدهم، بل تمتد إلى مجتمعاتٍ فقدت القدرة على الإحساس بالإهانة، مجتمعات قبلت بأن يكون كل شيءٍ بلا معنى، بلا قيمة، وبلا محاولةٍ لاختلاق وهمٍ يبرر ما يجري.
ما هؤلاء الحكامُ إلا كائناتٌ اعتادت على وجودِ تابعين لا طموحَ لديهم سوى البقاء تحت أقدامهم، لا يتخيّلون أنفسهم خارج هذه العلاقة. تصوّروا شيخًا عربيًا كانت ترتعدُ له فرسانُ الصحراء، صار اليوم يخلع عباءته راجيًا تافهًا أن يمنَّ عليه بنظرة، أن يمنحه حقًّا في الوجود بحضرته. يا لذلٍ لا يحتفظُ صاحبه بشرفٍ في خضوعه، ولا برغبةٍ سوى أن يكون مفعولًا به، يُسحقُ باستمتاعٍ تافه.
نعلم جميعًا أن من يسمّون أنفسهم "وجوه القوم" يتحالفون مع الطغاة ليكونوا حائطَ صدٍّ أمام أي تغيير، يحمون مناصبهم وإن كان الثمن ضياع شعوبهم وخيانةَ الإنسان علنًا، بلا خجل. وأنتم تعرفون أن هناك نساءً في السجون، أن هناك أرواحًا محبوسةً خلف القضبان، ولم يَعُد ذلك يُثير فيكم حتى مجرد التساؤل الطبيعي حول ظروفِ احتجازهن. ألا تشعرون أن أمرًا كهذا لا يجوز السكوتُ عنه؟ لكنّ شيئًا لم يهتزّ في داخلكم، لم تطرحوا السؤال، ولم تعترفوا حتى بوجوب الفعل.
كيف تمشون هكذا وأنتم تعرفون أنكم مملوكون بالكامل؟ كيف تقبلون ترك نسائكم في هذا المصير دون أن تطالبوا بأقل قدرٍ من العدالة؟ هل تصلح العقاقير لعلاج عطبكم؟ لا أريد الدخول في شكوى النساء منكم، فهو واضحٌ بما يكفي، لكن جرّبوا أن تستعيدوا شيئًا من إنسانيتكم بانتزاعِ جزءٍ من تفاهتكم، ولو بشتيمةٍ تُطلِقونها على أنفسكم في لحظة صدقٍ مع الذات، رغم أنني أعرف أن ذلك لن يغيّر كثيرًا.
إن ما يحدث لم يَعُد مجرد استبدادٍ تقليدي، بل هو تدميرٌ ذاتيٌّ ممنهج، عمليةٌ لا تستند إلى خطّةٍ سوى هوسٍ مطلقٍ بتفكيك كل شيءٍ لمجرد التفكيك، بتدمير ما كان يومًا عنصر تماسكٍ للمجتمع. إنها عدميّةٌ سياسيةٌ صريحة، تفاهةٌ لم يَعُد من الممكن وصفها سوى بأنها نظامٌ يحكمُ بوضوحٍ فج، تفاهةٌ باتت هي نفسها المشروع الوحيد.
لقد أصبح حُكم هؤلاء التافهين يبدو قدرًا محتومًا، حتى لمن كنا نظنهم أكثر وعيًا وأكثر مقاومةً للطغيان. يا حسرةً على من أدرك الخراب القادم ولكنه سار معه، يا حسرةً على من لا يحتاج اليوم لقمعٍ ليصمت، لأنه أصبح يخاف نفسه بنفسه. هل تعلمون ما هو أفظع من الجهل؟ أن تدرك وترى وتفهم، ثم تستسلم، ثم تُسلّم، ثم تعتاد، ثم تذوب في القطيع، وتتبنّى تفاهتهم كطريقة حياةٍ لا خيار لك فيها.
أصبح حكم هؤلاء يبدو وكأنه قدرٌ محتوم، ليس لأنهم أقوياء، بل لأننا أصبحنا نتسابق لنيل رضاهم بدل مقاومتهم، نلهث نحو القاع بلا توقف. لقد بتنا نشتاق لعصور الطغاة الكبار، لأنّهم – على الأقل – كانوا يعرفون كيف يَحكُمون، وكيف يُخيفون، وكيف يُقيمون سلطتهم كواقعٍ سياسي، لا كمسرحيةٍ هزلية لا يمكن وقفها ولا احترامها.
نحن نعيش في بؤسٍ يقبع في مستنقعٍ من التفاهة، نكاد نفقد احترامنا لأنفسنا، نفقد قدرتنا على إنقاذ أنفسنا من أنفسنا. حتى صار الخراب يبدو قدرًا حتميًا، صار من يحكموننا مجرد أدواتٍ لا وظيفة لها سوى استكمال الخراب. لقد رضيتم بأن تكونوا تافهين مثلهم، قبلتم أن تعيشوا بلا ذاكرة، بلا فكرة، بلا حتى القدرة على التشكيك فيما يحدث حولكم.
لكن، أليس كلُّ هذا الذي نعيشه هو النتيجة المنطقية لتاريخ طويلٍ من تزييف الوعي، تاريخ أوصلنا إلى هذا القاع؟ هل هذا الإدراك اليائس هو أخيرًا مواجهتنا الحقيقية مع تفاهتنا التي أنكرناها طويلاً؟ وهل حقًا لم يبقَ أمامنا سوى الانتظار، انتظار نهايةٍ محتومة، أم أننا أمام فرصةٍ أخيرةٍ لنعلن أننا لسنا تافهين تمامًا، وأننا على الأقل لا نزال قادرين على الرفض، ولو بالاعترافِ المرير؟
ربما ما بعد الإدراك هو هذا السؤال المؤلم، الذي لم يجبنا عليه البردوني، ولا نملك له إجابةً حتى اليوم.
"دعوني أجود
بالبكاء على وحيدٍ وحدي
فانهمري يا دموع العيْنِ
وأثري في كبدي،
وحيدي قضى،
وحيدي الحبيب،
وخانني جلدي."