يبدو أن تفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل المملكة السعودية واتجاه البعض للتعبير عن معاناتهم في الآونة الأخيرة عبر مقاطع فيديو يبثوها على مواقع التواصل الاجتماعي، دفعت السلطة لاستخدام نوع "جديد قديم" من الترويع والترهيب في محاولة لقمع أصوات أصحاب المظالم المكبوتة، عوضا عن معالجتها أو إنهاء معاناة أصحابها.
فما هو ظاهر أن الشعب السعودي محمل بالأعباء المادية وقّرب من الانفجار تحت ضغط المظالم الاجتماعية وانتهاك أدميته وامتهان كرامته، وهو ما يخشاه النظام السعودي لأنه يعلم جيدا أن تلك المظالم تخزن ورائها طاقة ثورية هائلة -بحسب ما أكده المفكر الجزائري مالك بن نبي- أشعلت ثورات في بلدان أخرى، لذلك لا يدخر النظام جهدا لإخمادها.
قبل أيام، ظهر شاب سعودي يدعى راشد الشهيري، في مقطع فيديو وجهه إلى بن سلمان، شكا فيه من بطالته المستمرة من قرابة 4 سنوات، دون أن يجد وظيفة في وطنه بسبب عدم وجود وظائف وارتفاع نسبة البطالة، مؤكدا أنه لم يترك وظيفة حكومية أو قطاع خاص أو شركات أو حتى قطاع عسكري إلا وقدم بها.
وأوضح الشاب أنه ذهب إلى الديوان الملكي ومكتب التواصل في وزارة الداخلية دون جدوى، وتساءل: "إلى فين نروح إذا كان الكل رفضنا؟"، موضحا أن عليه مسؤوليات والتزامات مادية منها إيجار وفاتورة جوال وبنزين سيارة، بالإضافة إلى تكاليف المأكل والمشرب.
وأقدم على إحراق شهادته، قائلا: "هذه الشهادة أحرقها ويحرق قلبي معها، لأن حياتي احترقت، وين أروح؟ أسألكم بآيات الله وين أروح؟ تكفى يا سيدي بن سلمان.. انصفنا وأملي بالله كبير أن أجد وظيفة في بلدي وأخدم بلادي".
وما هي إلا أيام قليلة وخرج الشاب في مقطع آخر، يعتذر فيه عما صدر منه وقاله في المقطع الأول وإحراقه شهادته بقوله: "ما في شخص عاقل على وجه الدنيا يحرق شهادة تعب عشان يحصل عليها 4 سنوات ودراستها مجانية، وفوق هذا كله تأخذ عليها مكافأة".
وأضاف: "بعد مراجعة مع نفسي واتصال تلقيته من أحد المحامين عرفت أن هذا الشيء الذي سويته خطأ 100%، ويدخل في باب التزوير وتصل عقوبته إلى السجن والغرامة، لذلك أنا مقر ومعترف بالخطأ واعتذاري هذا بمثابة اعتذار علني عن خطأي"، ناصحا بعدم تداول أي مقاطع لعدم التبين من مصداقيتها.
وعبر تطبيق تيك توك، تداول مستخدمون للتطبيق مقطع فيديو نشره رجل أمن يدعى بدر العنزي، يستصرخ فيه طالبا المساعدة، شاكيا من تعطل معاملة له في الأحوال المدنية منذ 30 عاما ولم تنته، ويماطلون معه حين يراجعهم.
وعقب ذلك بأيام ظهر في فيديو جديد، معتذرا بأنه ضخم وبالغ في سر أحداث دون سند، وهذه المشكلة ناتجة عن خلل في نفسيته يعاني منه منذ أكثر من 5 خمس سنوات، وحاول يتعالج منه لكن نتج عنه إدمانه الحبوب النفسية والمهدئات، مشيرا إلى أن جهة عمله لم تقصر معه وتغاضت عن أمور كثيرة منها كثرة تغيبه وعدم انضباطه، تقديرا لظروفه النفسية.
وقال العنزي إن ظهوره في هذا المقطع لتصحيح ما قاله في الفيديو السابق وتحمل كافة المسؤولية تجاه كل ما يترتب عليه من إجراءات سواء من المرجع العسكري أو النيابة، ودعا الله أن يهدي كل خائن يضمر لأبناء البلد الشر من ترويج المخدرات والحبوب النفسية غير النظامية لأن هؤلاء هم أعداء البلد الحقيقيين، وتجب محاربتهم.
https://www.tiktok.com/@toktren/video/7234495106936556801?_r=1&_t=8cX1ZaVKdYU
وعبر التطبيق ذاته، نشر مواطن يدعى أحمد المزروع صاحب حساب "التميمي" في 7 مايو/أيار 2023، مقطع فيديو تحت عنوان "وش ودكم يرجع من أيام زمان" قارن فيه بين أسعار بعض السلع قبل 4 شهور وأسعارها الحالية منها الشاورما والبنزين، وحصل المقطع على قرابة الـ27 ألف إعجاب.
https://vm.tiktok.com/ZM2LRsgy3/
وفي 18 مايو/أيار 2023، نشر المزروع الذي يتابعه على حسابه 7500 متابع، ويبدي 128 ألف ونصف إعجابهم به، مقطع جديد، اعتذر فيه لمتابعيه عن المقطع الأول، ووصف نفسه بأنه "ساذج، وسطحي ومريض نفسي، ويتعاطى الحبوب وإذا لم يأخذه تظهر عليه أعراض هلوسة وشطحات مثل ما فعله بالفيديو السابق -على حد قوله-.
وقال: "الصدق أني خجلان من نفسي وأنا أصور هذا الفيديو، لأن الواحد ما يهون عليه أن يطلع أمام الناس ويعترف بمرضه، لكن من واجبي أصحح خطئي وهذا كان السبب في إدماني للحبوب المهدئة/ وشكرا لكل من دخل لي بالخاص ونصحني بخصوص المقطع".
وأضاف المزروع: "قبل أن اختم أوجه لكم نصيحة.. إدمان الحبوب النفسية يدمر النفسية ما يزينها، والدولة بدأت هذه الأيام حملة قوية على المخدرات، لازم كلنا نقف معهم فيها، قواهم الله، وفي أمان الله".
https://www.tiktok.com/@a.altamimi.506/video/7234434672074280194?_r=1&_t=8cX0AtOHqAo
تلك المقاطع المشار إليها وتراجع أصحابها عن شكواهم كان العامل المشترك بينها بعد اعتذارهم، إشارتهم إلى تلقيهم ما وصفوه بـ"التنبيه أو النصيحة" مرة في رسائل على الخاص وأخرى عبر اتصال أجراه محامي بأحدهم وأخبره بالعواقب القانونية، لكن معلقون على المقاطع أكدوا أن صيغة الاعتذار تؤكد أنها مرسلة من جهة رسمية وبتوجيه من سلطة عليا.
كما كان العامل الثاني المشترك في الاعتذارات المعلنة، اتهام أصحابها لأنفسهم بأنهم "مرضى نفسيين" يخضعون للعلاج منذ سنوات، مستخدمين ذلك السبب كذريعة ومبرر لإعرابهم عن معاناتهم وامتعاضهم من ارتفاع أسعار السلع والخدمات أو مرورهم بأزمات مادية نتيجة بطالتهم عن العمل، أو شكواهم من تعرضهم للتعسف في إنهاء معاملاتهم الخدمية.
وتفيد دراسات وأبحاث علمية نفسيه واجتماعية بأن من أعراض مرض الاعتلال النفسي، ظهور سلوك معادي للمجتمع وإنكار الانتماء، واللامبالاة بالآخرين، وتعمد إيذاء الناس دون ندم، ومعاداة النظام والقوانين والعادات الاجتماعية والأخلاق العامة ومحاولة كسر القيود، وتحدي السلطة؛ وكلها سلوكيات قد تتخذها السلطة السعودية ذريعة لمحاكمة أصحابها.
وهنا يتأكد تعمد الحكومة السعودية ترهيب مواطنيها ممن يستعملون حقهم في حرية الرأي والتعبير، مستحدثة أساليب جديدة لمواجهتهم وقمعهم بالقوة، وانتزاع اعترافات منهم موثقة بالصوت والصورة، بعدم أهليتهم، وبالتالي تكذيب كل ما يصدر عنهم من فعل أو انتقاد لتوجهات السلطة، أو امتعاض من قصور ومماطلة أحد الجهات الحكومية في تأدية دورها.
المتابعون على منصات التواصل الاجتماعي، اتهموا في تعليقاتهم على المقاطع المشار إليها سابقا، جهاز أمن الدولة السعودي بمواصلة التضيق على الحريات وترهيب وإخراس كل الأصوات المطالبة بحقوقها، مؤكدين أن ما أعلنه أصحاب المظالم في مقاطعهم الأولى هو مجرد اختصار لما تشهده المملكة من غياب للعدالة الاجتماعية، وفقر، وبطالة، وفساد.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تلك الشكاوى والمظالم التي يرفعها المواطنين بمثابة تأكيد لواقع مغاير لما تعلنه السلطات السعودية في إحصاءاتها الرسمية التي كان آخرها، زعم الهيئة العامة للإحصاء، انخفاض معدل البطالة لإجمالي السكان إلى (4.8 %) مقارنةً مع الربع الثالث من عام 2022، نتيجة للتشريعات وبرامج التوطين، ودعم الوظائف ومتابعة المنشآت.
لذلك لا يمكن الاستهانة بما تحمله مقاطع الفيديو المتداولة للشباب سواء التي أعلنوا فيها معاناتهم أو التي اعتذروا وتراجعوا فيها عن شكواهم، من دلالات ومؤشرات، أبزرها فشل برامج توفير فرص العمل والحماية الاجتماعية، وأن السلطة السعودية تحاكم الشعب فكريا وسياسيا وتفرض وصايتها عليه، وتصعد قمعها لمستخدمي الانترنت في التعبير عن رأيهم.
وهو ما كشفته منظمة العفو الدولية، في تقرير لها في فبراير/شباط 2023، إذ أكدت أن السلطة السعودية صعدت خلال العام الماضي من حملتها القمعية الوحشية ضد الأفراد الذين يستخدمون مساحات على الإنترنت للتعبير عن آرائهم.
وأعلنت توثيق حالات 15 شخص حُكم عليهم في 2022 بالسجن لمدد تتراوح بين 10 و45 عامًا لمجرد ممارستهم أنشطة سلمية على الإنترنت، كما اخترقت شركة تواصل اجتماعي واحدة على الأقل للحصول بشكل غير قانوني على معلومات عن المعارضين والسيطرة على المعلومات التي تُنشر عن المملكة على الإنترنت.
وأوضحت أن مقاضاة الأفراد الـ15 تمت من جانب المحكمة الجزائية المتخصصة التي أُنشئت أصلًا للنظر في قضايا تتعلق بالإرهاب، والتي استخدمت مواد قانونية مبهمة بموجب قوانين مكافحة الجرائم الإلكترونية والإرهاب تساوي بين التعبير السلمي والأنشطة عبر الإنترنت من جهة و"الإرهاب" من جهة أخرى لمقاضاة هؤلاء الأفراد.
وسبق أن كشفت الناشطة والمدونة السعودية المقيمة في كندا سارة العتيبي، في مقالة على موقع "ميدل إيست آي" البريطاني في سبتمبر/أيلول 2018، أن "شرطة الإنترنت" السعودية تمارس الابتزاز والقمع بصورة غير متخيلة ينبغي أن تكون ملهمة للنشطاء من أجل مقاومتها.
وقالت إن المملكة في عصر "السوشل ميديا" تسعى إلى "قمع حرية التعبير مستخدمة في ذلك عدداً من الوسائل، داعية إلى أن تكون الأساليب الحكومية السعودية في إسكات النقاد ملهمة لإيجاد السبل الكفيلة بمقاومتها في حال استهدفت أصدقاء أو عائلات المعارضين سعيا إلى تقييد قدرتهم على إيصال رسائلهم أو هددت بالقبض عليهم.
وأضافت العتيبي: "بينما توسع المملكة دائرة قمعها لتشمل عالم السوشال ميديا فإن علينا أن نتعلم كيف نذود عن أنفسنا في مواجهة ذلك القمع".