في يوم ذكرى ميلاد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الموافق 31 أغسطس/آب 2023، حشدت السلطات السعودية ذبابها الإلكتروني للترويج له كأمير مجدد ملهم مبهر طموح قائد صاحب رؤية ومنجزات، وغيرها من النعوت التي تداولوها عبر تغريداتهم على منصة إكس "تويتر سابقا" عبر وسوم عدة أبرزها #ولي_العهد_38_عام، #ميلاد_ولي_العهد_38.
تلك الأكاذيب المروجة تخفي ورائها حقائق تحاول السلطة طمسها، أبرزها أن أيدي بن سلمان مخضبة بدماء الكثير من الأبرياء، على رأسهم الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي قتل داخل قنصلية بلاده في تركيا في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وأثبتت الاستخبارات الأميركية لاحقا أن ولي العهد هو من أمر باغتياله.
وتحاول السلطة بترويج أكاذيبها عبر ذبابها الإلكتروني والشخصيات المحسوبة عليها، انتشال بن سلمان من وحل حرب اليمن التي يخوضها منذ مارس/آذار 2015، وتسببت في أسوأ أزمة إنسانية، كما تسعى لتبيض سمعته الملطخة بحملات الاعتقال التي شنها ضد الدعاة والمعارضين لسياساته منذ وصوله إلى ولاية العهد في يونيو/حزيران 2017.
أما الإصرار على وصف بن سلمان بأنه "صاحب رؤية" فيبدو أنه مسعى لطمس حقيقة فشل رؤية 2030 التي تهدف لإعادة رسم مستقبل السعودية الإنمائي والاقتصادي والاجتماعي، والتي أكدت مراكز دراسات بحثية أنها محكومة بالفشل منذ اللحظة الأولى لانطلاقها، كما رجحت تقارير اقتصادية أن تواجه السعودية عجزاً مالياً، وتباطؤاً غير مسبوق في النمو.
ويمكن تفسير الحفاوة الواسعة على مواقع التواصل الاجتماعي بذكرى ميلاد بن سلمان، والحديث عما وصفوه بـ"إنجازات متسارعة" بأنها محاولات فاشلة لكبح الانتقادات المتواصلة لسياساته وعدائه لدول الجوار وتصعيد تصريحاته ومن ثم التراجع عنها، وصرف الانتباه عن الاضطرابات الاجتماعية التي تسبب فيها منذ وصوله لولاية العهد.
اغتيال خاشقجي
ولي العهد السعودي هو الحاكم الفعلي للمملكة منذ عدة سنوات وقد عينه والده الملك سلمان قبل أواخر سبتمبر/أيلول 2022 رئيسا للوزراء بموجب مرسوم ملكي، لكن ذلك لم ينظف يده من دماء خاشقجي وسيظل إصداره الأمر بالتخلص منه ومن ثم تم استدراجه وقتله داخل السفارة السعودية بإسطنبول، وتقطيع جثمانه، جريمة تسود تاريخه.
وخلصت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي وعد إبان فترة ترشحه للانتخابات الرئاسية بملاحقة بن سلمان وتقديمه للعدالة، ورفع السرية عن تقرير استخباراتي كشف تورط بن سلمان في اغتيال خاشقجي، إلى أن ولي العهد لديه حصانة قانونية من الملاحقة القضائية في دعوى مرفوعة ضده في قضية مقتل خاشقجي.
وعلى الرغم من تلك الحصانة المزعومة ومرور قرابة الخمس سنوات على اغتيال خاشقجي، إلا أنه لازال حاضرا وتناضل المنظمات الحقوقية والإنسانية ومن بينها القسط وداون وهيومن رايتس ووتش والعفو الدولية وغيرها من المنظمات الأخرى، إلى جانب ناشطين حقوقيين بارزين ومعارضين بالخارج وخطيبته خديجة جنكيز، لتقديم قاتليه إلى العدالة.
فلم يحاكم إلى اليوم بن سلمان ولم يقدم الجناة الحقيقيين إلى محاكمات عادلة، بل وعاد المتهم الرئيسي بالإشراف على الاغتيال المستشار الإعلامي سعود القحطاني، للظهور بعد سنوات من الاحتجاب عن الأنظار، فيما أصدرت المحاكم السعودية "المسيسة" أحكاما مخففة على الجناة "الرمزيين" الذين قدمتهم للقضاء لامتصاص غضب الرأي العام.
حرب اليمن
أما وحل اليمن الذي ورط فيه بن سلمان المملكة منذ سبع سنوات وتسبب في تكبدها خسائر مالية وعسكرية وبشرية فادحة، بالإضافة إلى تسببه في أسوء أزمة إنسانية هناك، فمازالت ارتداداتها مستمرة حتى اليوم ومعلقة بهدنة هشة أبرمت في أبريل/نيسان 2022، وتتجدد بوساطة عمانية، ومهددة طيلة الوقت.
التقارير الصحفية والحقوقية كشفت عن شتى أنواع الإجرام التي ارتكبتها السلطات السعودية وحليفتها الإمارات في اليمن، وأكدت أن الحرب مزقت اليمن وتسببت في تفاقم الفقر وضاعفت معاناة اليمنيين خاصة الأطفال نتيجة سوء التغذية جراء دخول البلد في مجاعة حقيقية وانتشار الأمراض والأوبئة ونقص الأدوية وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة بشأن حالة حقوق الإنسان في اليمن في الفترة ما بين يوليو/تموز 2019 وحتى يونيو/حزيران 2020، فإن جميع أطراف النزاع في اليمن استمروا في ارتكاب مجموعة من الانتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، مؤكدا أن ما من أياد نظيفة في هذا النزاع.
ونشرت وكالة"بلومبرغ" الأميركية مقال رأي للكاتب بوبي غوش بعنوان "محمد بن سلمان هو المسؤول عن عار السعودية في اليمن"، موضحاً أن الغزوة الأولى للسياسة الخارجية لولي العهد انتهت بالفشل الذريع الذي استغرق ثماني سنوات، وأودى بحياة أكثر من 200 ألف ضحية، وعشرات المليارات من الدولارات.
وقال الكاتب في المقال المنشور في أبريل/نيسان 2023، إن بن سلمان يأمل ألا يلاحظ أحد أن غزوته الأولى في السياسة الخارجية كانت فاشلة تماماً"، مضيفاً أنّه في الوقت الذي يسعى لسلام مع حكومة صنعاء، يفضل أن نولي اهتماماً لمكانته المتزايدة كلاعب في الشؤون الدولية.
العلاقات الخارجية
وعروجا على ذكر فشل بن سلمان في السياسات الخارجية التي اعتمدت على القوة العسكرية كما ظهر في اليمن، فلم يكن ذلك الفشل الوحيد، فبعدما فرضت السعودية إلى جانب دول أخرى حصارا على قطر وأغلقت كافة المنافذ الجوية والبحرية والبرية معه وقطعت علاقاتها معها في 5 يونيو/حزيران 2017، تراجعت عن ذلك.
دول الحصار زعمت أن قطر تدعم الإرهاب وطالبتها بإغلاق قناة الجزيرة، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وطرد أي عنصر من الحرس الثوري الإيراني موجود على أراضيها، والامتناع عن ممارسة أي نشاط تجاري يتعارض مع العقوبات الأميركية على طهران، وغيرها من المطالب الأخرى التي رفضتها الدوحة جملة وتفصيلا ونفت التهم المنسوبة لها.
وبعد نحو ثلاث سنوات من المقاطعة أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في 5 يناير/كانون الثاني 2021، عودة العلاقات الكاملة بين قطر ودول المقاطعة الأربع السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وذلك خلال قمة مجلس التعاون الخليجي، وذلك دون أن تقدم قطر أي تنازلات أو تتراجع قيد أنملة عن سياستها.
ولحفظ ماء الوجه، روج حينها إلى أن بن سلمان اعتمد خطاب تصالحي بالنظر إلى العديد من المبادرات الإقليمية الجارية، ليتبع مصالحة قطر بمصالحة مماثلة لإيران في مارس/آذار 2023، بعدما دأب على مهاجمتها في كافة اللقاءات الإعلامية التي أجراها مع الصحافة الغربية، ووصف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنه "هتلر الشرق الأوسط".
أما العلاقات السعودية التركية التي شهدت توتر كبير مع انطلاق رياح الربيع العربي الذي ناصرته الأخيرة، ووقفت ضده المملكة، وتفاقمت مع اغتيال خاشقجي بتركيا، ووصلت الأمور حد استعداء الرياض لأنقرة وحشدت كل إعلامها انتقاما لابن سلمان، مما تسبب في أضرار بالغة في العلاقات الثنائية بين البلدين، فقد انتهت الحقبة في أبريل/نيسان 2022.
الأوضاع الحقوقية
وعلى المستوى الحقوقي، فإن ذكرى ميلاد ولي العهد تتعاقب مع الذكرى السنوية لليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري الموافق 30 أغسطس/آب من كل عام، للفت الانتباه إلى غموض مصير الأفراد الذين سجنوا في أماكن وظروف سيئة، يجهل ذويهم أو ممثليهم القانونيين أي معلومات عنهم.
والإخفاء القسري وفق تعريف الأمم المتحدة هو ممارسة تتجاوز انتهاكات حقوق الإنسان ويكثر استخدامه كأسلوب استراتيجي لبث الرعب داخل المجتمع، لأن الشعور بغياب الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة لا يقتصر على أقارب المختفي قسريا فقط، بل يصيب مجموعاتهم السكانية المحلية ومجتمعهم ككل.
وأوضحت الأمم المتحدة أن الاختفاء القسري يحدث عند القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغما عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أي نحو آخر على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها أو على أيدي مجموعة منظمة، أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها ثم رفض الكشف عن مصيرهم أو أماكن وجودهم ورفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، مما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون.
منظمة القسط الحقوقية أكدت أن الاختفاء القسري المحظور دوليا لا يزال ممارسة تتم بصورة منهجية وواسعة الانتشار في السعودية حيث تستخدمها السطات السعودية على نطاق واسع ضد معتقلي الرأي، بمن فيهم المعتقلون المقرر الإفراج عنهم، داعية السلطات السعودية على وضع حد لممارسته على الفور.
ودعت في تقريرها الصادر في 20 أغسطس 2023، السلطات السعودية للمصادقة على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 1992، معربة عن قلقها العميقٌ إزاء سلامة ناشطَين مخضرمَين في مجال حقوق الإنسان كان مقررا الإفراج عنهما أواخر 2022 ولكنهما اختفيا قسريا، ورفضت السلطة الكشف عن مصيرهما أو مكانهما.
وسلطت القسط الضوء على المدافع عن حقوق الإنسان محمد القحطاني، الذي أتم عقوبة الحبس المحددة بـ 10 سنوات يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ولم يُفرج عنه حتى الآن، وممنوع من أي تواصل مع ذويه منذ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وترفض السلطات إعطاء معلومات عنه.
كما ذكرت المنظمة بالمدافع عن حقوق الإنسان والمحامي عيسى النحيفي، الذي لايزال مختفي قسريًا منذ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2022، بعد إعلانه خوض إضرابٍ عن الطعام احتجاجًا على عدم إطلاق سراحه بعد انقضاء مدة حبسه المحددة بست سنوات في سبتمبر/أيلول 2022.
وأشارت إلى أن الناشط في المجال الإنساني عبد الرحمان السدحان، المعتقل منذ مارس/آذار 2018 من مقر عمله بالهلال الأحمر السعودي في الرياض، اختفى قسريًّا لمدة 23 شهرًا، وحُكم عليه في أبريل/نيسان 2021 بالسجن 20 عامًا على خلفية نشره تعليقات سلمية على تويتر، ثم أخفي قسريًّا مرةً أخرى بعد ظهوره في محكمة الاستئناف في أغسطس/آب من ذلك العام، ومنعته السلطات من الاتصال بأهله لأكثر من عامين.
ولفتت المنظمة إلى اعتقال الصحفي تركي الجاسر أيضا في مارس/آذار 2018 بعد مداهمة منزله، ولم يُسمح له بالزيارات أو المكالمات الهاتفية لما يقرب من سنتين، ورفضت السلطات السعودية أن تجيب على أي استفسار عنه، وباستثناء مكالمة هاتفية واحدة أجراها مع أهله في فبراير/شباط 2020، مُنع مرة أخرى من أي تواصل آخر.
والأسماء التي ذكرت المنظمة بهم ما هم إلا مجرد نماذج لعشرات المعتقلين المخفين قسريا في سجون بن سلمان، أبرزهم الشيخ سليمان الدويش، والناشطتان أماني الزين، وأسماء السبيعي، والشاب أحمد بن ظاهر المزيني، وعبدالله حجاج العريني.